كل معنى كامن في النفس، بعبارات جليلة، ومعان نقية بهية، والذي صح في تعريفها: أنها خلوص الألفاظ من التعقيد المبعد عن إدراك معانيها، وعن العيوب التي تعرض فيها، فإن اشتقاقها من الفصيح، وهو اللبن الذي خلص من رغوته أو لبئه، وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت تارة وجيزة، ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل:
به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد
وطوراً بإيجاز يبث لذي حجاً ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد
وعلى الجملة، مهما كان الإيجاز كافياً، والمعنى به واضحاً، فالإطالة إن لم تكن عياً كانت عبثاً، ولم تزل الأجلاء المتقدمون يحمدون ذلك، ويذمون ما سواه، ويدلك على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب، فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يديه كتاب، وهو يعاود قراءته تارة بعد أخزى، ويصعد نظره فيه ويصوبه، قال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلى وقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، فقلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المكاره، وأعاذه من المخاوف، فقال: إنه لا مكروه في الكتاب، ولكني قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله يقوله في البلاغة، فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقريب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير