ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين، وجد اليهود والنصارى متقابلين على طرفي نقيض، هؤلاء ينحرفون إلى جهة وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها، هؤلاء في طرف ضلال، وهؤلاء في طرف يقابله.
والمسلمون هم الوسط، وذلك في التوحيد، والأنبياء، والشرائع، والحلال والحرام، والأخلاق، وغير ذلك؛ فلم يجحدوا شرع الله الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئاً من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعاً لم يأذن به الله كما فعلت النصارى. ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود. ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفاً بخصائص المخلوق ونقائصه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود. ولا المخلوق متصفاً بخصائص الخالق سبحانه -التي ليس كمثله فيها شيء- كفعل النصارى. ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحداً كفعل النصارى (١). وأحل الله للمسلمين الطيبات خلافاً لليهود، وحرم عليهم الخبائث خلافاً للنصارى.
والله أرسل رسوله محمد ﷺ بالهدى ودين الحق، فالهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح؛ ليظهره على الدين كله، والظهور يكون بالعلم واللسان؛ ليبين أنه حق وهدى، ويكون باليد
(١) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ [آل عمران: ١١٢]، ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه. فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]. وقد وصف بعض اليهود بالشرك في قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠]. ففي اليهود من عبد الأصنام وعبد البشر؛ وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، فيكون المستكبر مشركاً.