والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معاني ودقائق جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط، وما أشبه ذلك.
هذه الفنون أخذتها الملة الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، أما الطب فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة. وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(الفرقان: ٦٧)، وعرفنا فيه ما يفيد نظام الصحة بعد اختلالها. وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى:{شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}(النحل: ٦٩)، ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات، التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات. وأما الهندسة ففي قوله تعالى:{انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}(المرسلات: ٣٠، ٣١)، فإن فيه قاعدة هندسية وهو أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرة إبراهيم نمرود ومحجته قومه أصل في ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة: فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام التواريخ لأمم سالفة، وإن فيها بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.