للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذه الأحاديث التي أثبتوها لم يثبتوها عشوائياً أو على سبيل الموافقة، وإنما كان ذلك بعد أن " رحلوا من أجلها إلى البلدان النائية، وطوفوا في البلدان شرقاً وغرباً ليصدروا عن خبرة وعيان وسألوا عن الرواة واطَّلعوا على مروياتهم ومدوناتهم ومحفوظاتهم " (١).

فالأحاديث التي دونوها إنما دونوها بناءً على قواعد هي في أذهانهم نابعة من سعة حافظتهم واطِّلاعهم، وسبرهم للمرويات الكثيرة التي وقفوا عليها فعلموا أنَّ هذا الحديث يصح عن فلان ولا يصح عن فلان، وأنَّه من رواية فلان وليس من رواية غيره.

فحينما يقول أبو حاتم - مثلاً -: هذا الحديث لا يصح من رواية أنس مع أن طريقه ثقات فإن ذلك يعني سبر كل طرق الحديث ومظانه، بحيث أدرك يقيناً أنه ليس من رواية أنس - قطعاً -.

وقد كتب الأئمة بعض الأحاديث عن الضعفاء والكذابين فوجدوا أحاديثهم مما لا يجوز تدوينها في كتبهم إما لأنها ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأن فيها من الغلط الفاحش في الإسناد أو المتن مما يتعين تركها ورميها، فتغربلت الروايات الكثيرة غربلة دقيقة وهذا ما نص عليه الأئمة، يقول الإمام يحيى بن معين: " كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً " (٢).

فالمتقدمون قلما فاتهم حديث، وقلما تركوا حديثاً صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً ضعفاً مقبولاً إلاّ ودونوه في مصنفاتهم، بل وحتى الذين اشترطوا الصحة في حديثهم فإنه قلما يفوتهم الحديث الصحيح، يقول محمد بن يعقوب الأخرم: " قلما يفوت البخاري ومسلماً مما يثبت من الحديث " (٣).

فإذا ترك البخاري أو مسلم حديثاً ما عليك إلا أن تتبع لماذا تركاه؟! وغالباً ما يكون معلولاً، وخاصة إذا لم يكن في الباب غيره، أو كان مشهوراً عندنا اليوم.

وبعبارة أخرى: المتقدمون سبروا المرويات، ودرسوا الأسانيد والمتون دراسة وافية شافية فعرفوا المقبول من المتروك، والصحيح من المكذوب، فدونوا مصنفاتهم بعد السبر والتحرير فكتبوا ما صح وتركوا ما لم يصح، إلا ما شاء الله تعالى، ولا يعني من الصحة


(١) د. بشار عواد، مقدمة تحقيقه لتأريخ الخطيب ١/ ١٦٦.
(٢) تاريخ الخطيب ١٦/ ٢٧٣.
(٣) تأريخ الخطيب ١٥/ ١٢٣.

<<  <   >  >>