لأن المؤامرة تتم يوما بعد يوم ونحن نحيى في آثارها حياة المستمتع بأيامه ولياليه، وما أيامه ولياليه إلا بنات فلك الاستعمار، لا بنات فلك الشمس والقمر. وأنا لا أعني بهذا بلاغة ولا شعراً، ولكني أحسست ذلك كله وأنا أقرأ هذه المجموعة ساعة بعد ساعة.
فهذا المفكر الخبير، قد استطاح بحسن إِدراكه وبقوة بيانه وبدقة ملاحظته، أن يفتح عيوننا على الخيوط التي تنسج منها حياتنا تحت ظلام دامس قد أطلقة المستعمر ليخفي عنا مكره بنا وخداعه لنا، فإذا تم نسيج هذه الحياة، لبسناها كأنها حياة نابعة، من سر أنفسنا، وبذلك يتمكن أن يقودنا كالأنعام، ونحن نحسب أننا إنما نقود أنفسنا، وأننا نتصرف في هذه الحياة تصرف الحر الذي لا سلطان لأحد عليه. وهذا هو المعنى الذي يرمي إليه الأستاذ مالك باصطلاحه الذي وضعه وهو ((قابلية الاستعمار)).
وليس يخالجني شك أننا لن نظفر بما تتمناه قلوبنا، ولا بما تتبجح بذكره ألسنتنا، من حرية، أو استقلال، أو مجد أو كرامة، إلا إذا استطعنا أن نفكر في أمورنا تفكيرا صحيحا، مؤسسا على أصل من التنبه واليقظة والإِدراك. وظهور رجل مثل مالك بن نبي من بين شعب لقي من نكبة الاستعمار ما لم يلقه شعمب إسلامي آخر باعث على الرجاء والأمل، فأنا لا أعرف فيمن قرأت لهم أو سمعتهم من الناس ولا ممن في أيديهم مقاليد أمور الشعوب العربية والاسلامية رجلا فيه مثل هذا الحس الدقيق بالنكبة، أو مثل هذا التنبه الشامل للدسيسة، أو مثل هذه الاستقامة في فهم الوسائل المعقدة التي يستخدمها الاستعمار، أو مثل هذه الخبرة بالخسة التي تلبس ثياب النبل والشرف. وإنه ليحزنني أن يكون أمرنا اليوم كما قال الأول ((من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره)).
فعسى أن تكون هذه المجموعة من المقالات دليلا مرشدا يفتح به الله عيونا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فيومئذ تتحقق لنا الأمنية التي لا نعيش إلا بها، ولا نسعى إلا إليها.