يقال أحيانا (في الصحافة الاستعمارية) أن للاستعمار قصداً واستعدادا حضاريا، وقد يكون هذا صحيحاً إذا اعتبرنا الكلمة بالنسبة لنواياه نحو نفسه لا بالنسبة لنواياه نحو الغير. فنحن نعترف فعلا أن الاستعمار يستطيع أن يحضر نفسه، إِذا اتخذنا هذه الكلمة بالمعنى الذي تضفيه عليها حضارة المادة في القرن العشرين، أي أنه يستطيع أن يحسن وسائله ويدقق خططه الاستعمارية حسبما تقتضيه الظروف.
إن جيل جدودنا الأقربين، بالجزائر على سبيل المثال، قد أدرك عصر ((الحاوي)) الذي يخضع الثعبان لسحره، فهو عصر البندير و ((الفتة)) الطرقية.
لقد كان هذا كافيا لاستعمار تلك الجماهير التي غطت في سباتها الشتوي قرونا، قرون عصر ما بعد الموحدين، فقد كانت هذه الوسائل، رغم ما بها من البساطة، في مستوى ذلك الوسط البسيط القابل للاستعمار.
ولكن هذا الوسط الخامل قد بدأ فجأة يتحرك، كأنما شحنة كهربائية أفرغت في شعوره ... ثم بدأت رعشة- فكرية تحدث على سطح ضميره الهادي الذي غط في النوم منذ عهد طويل .. تحدث تموجات خفيفة.
وكان ذلك في عصر آبائنا الذين سمعوا بصورة غامضة، كلاما عن جمال الدين الأفغاني، حيث انتقلت فكرته، من فم إلى أذن حتى وردت الضمير الجزائري ... فأحدثت على سطحه الهادئ تلك التموجات ...