للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الشرط الثاني: عدالة الراوي]

الثاني: رواية العدل، والعدالة: ملكة تكون في المرء باعثة له على ملازمة التقوى والمروءة.

وهذه المسألة فيها نظر وإن كان أكثر المحدثين عليها؛ لأن التزام هذا الشرط في تعريف العدالة يجعلك لا تجد محدثاً بحال من الأحوال، فلسنا بملائكة فلنا الهنات، ولنا الزلات، ولنا السقطات، وأيضاً المحدثون لهم ذلك، وما من محدث إلا وتجده يهم مرة وتخدش مروءته مرة.

فالمسألة أن الحكم على الإنسان يكون على الغالب، وما أروع ما قاله الذهبي: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فنحن ننظر إلى الغالب فنقول: هي ملكة في الإنسان تحمله على التقوى والمروءة، وهم قالوا: تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.

فأسقطنا الملازمة؛ لأننا نقول: يمكن أن تحدث منه هنات، لكن الغالب هو الذي يحكمنا بأن نقول: هذا عدل، والتقوى عند علمائنا: العمل على طاعة الله بنور من الله -يعني: ببصيرة وعلم-، يرجو ثواب الله، ويبتعد عن معصية الله بنور من الله يخاف عقاب الله، وهذا مجمل ما يقال في التقوى.

فالتقوى البعد عن المعاصي، واختلف العلماء في إطلاق التقوى على فاعل الصغائر، فبعض الشافعية يرون أن الذي ينظر إلى المرأة الأجنبية فاسق، فقد قال ابن حجر الهيتمي: من نظر إلى المرأة الأجنبية وكرر النظر فهو من الفساق، بمعنى: أسقط عدالته بالنظر، وهذا الكلام مقلق ومؤلم ومفزع؛ لأن به يكون أغلب الناس غير عدول.

والصحيح الراجح: أن كتاب ربنا وسنة نبينا تضبط لنا العدالة قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١] وعليه فالصغائر لا يمكن أن تسقط العدالة.

وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:٣٢] قال أبو هريرة: القُبلة من اللمم، واللمس أقوى في المعصية من الرؤية ومن النظر، والنظرة من اللمم.

فالصحيح الراجح أن هذه من الصغائر وليست من الكبائر ولا تسقط العدالة بها، وهناك ضابط ضبطه ابن عباس لنا أيضاً فقال: لا كبيرة مع الاستغفار، وهذا يدل على أن التقي إن وقع في الكبيرة فتاب توبة نصوحاً رجع إلى السلطة مرة ثانية ولا يتهم بالفسق.

فقال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، كأن نرى رجلاً ينظر إلى امرأة أجنبية عنه ونقول له: حرام عليك، اصرف بصرك، فيصرف بصره ثم يرجع ثانياً، وينظر ثم يصرف، وينظر ويصر على النظر للأجنبيات، فهذا يفسق بذلك، وهذا من الفساق وإن كان بائعاً، أو مدرساً، أو شيخاً، فإذا أصر على أي معصية صغيرة فهو من الفساق، فلا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.

أما المروءات فهناك ضوابط عامة وضوابط عرفية لها، فالضوابط العامة للمروءات كأن يحمل المرء نفسه على ألا يهتك عرضه عند أحد، ويحمل نفسه على الحياء والاستحياء، ويحمل نفسه على الأدب مع الكبار، ويحمل نفسه على الخلق الحسن مع الآخرين، فهذه من المروءات التي هي ضوابط عامة في الكل.

وهناك ضوابط خاصة يحكمها العرف، مثل الضوابط في القديم والضوابط في عصرنا، فمثلاً: الآن في بلد الإمارات إذا رأى الرائي طلبة العلم بغير غطاء الرأس قال: هؤلاء ليسوا بطلبة علم، فهؤلاء مخدوشو المروءة عندنا، ففي عرفهم أن المرء إذا خرج بشعره أصبح رجلاً مخدوش المروءة، وهذا العرف كان سائداً في عصر الأولين الأخيار، فعندما دخل ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه على نافع وهو يصلي بغير غطاء الرأس، فقال له: أتخرج في الأسواق هكذا؟ قال: لا، قال: الله أحق أن تستحي منه، وهذا يدل على أنه كان خادشاً من خوادش المروءة عندهم.

وقول ابن عمر معناه: أحق أن تكون كامل المروءة عند الله من غيرك، وهذا الذي نقوله لإخواننا، فإذا كان لك قسط من الليل فلا تقم بسروالك وردائك الذي ترتديه عند نومك، ولا بمنظرك الذي لا يعلم به إلا الله جل في علاه فتقف وتقول: أنا أناجي ربي الذي يراني على حالتي.

فهذا لا ينبغي، بل كن مؤدباً مع ربك، واجعل قميصاً خاصاً بقيامك، واجعل طيباً معيناً تتطيب به أمام ربك مروءةً منك عندما تقف أمام الله جل في علاه، وأقول للذي يصلي بالرداء الداخلي -أي: الحمالات-: لا تصح صلاتك وإن قال به الحنابلة؛ لأنه لابد أن تكون لك زينة عندما تقف أمام ربك جل في علاه مروءة منك أمام الله.

ومن المروءات أيضاً: ألا يأكل المرء في الشارع إلا ما ظهر في العرف أنه لا يخدش المروءة.

فمثلاً لو أن معي لباً فلا بأس أن آكله إذا علمت أن ذلك لا يخدش مروءتي عند الناس.

وقد قال الألباني نفسه: العرف بين الناس الآن أن الأكل في الشارع ليس فيه ثمة شيء إلا إذا ظهر أمام الناس في العرف أن هذا من الأمور التي تخدش المروءة، فإن كان عند الناس أنه من خدش المروءات وينظرون إليك نظرة النكارة، فلا يجوز لك أن تفعل ذلك؛ لأنها تسقط مروءتك ولا يؤخذ منك الحديث بذلك.

وخلاصة الأمر أن الشرط الثاني: العدالة، والعدالة تجمع بين المروءة وبين التقى.

<<  <  ج: ص:  >  >>