[تدوين السنة النبوية]
إن الله امتن على هذه الأمة بأن خلق جهابذة يعيشون لهذه السنة ويحفظونها، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، فكانوا يعتنون بالرجال الذين يروون حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أنفق كل ماله، ومنهم من أنفق عمره وجهده، وأسهر ليله، وأتعب نفسه من أجل هذا الإسناد.
فمثلاً يحيى بن معين كان رجلاً فاضلاً فحلاً في علم الأسانيد وعلم النقد والرجال، كان يمتلك ألف ألف درهم أو ألف ألف دينار فأنفقها عن بكرة أبيها في علم الإسناد، وكان يجوب مشارق البلاد ومغاربها حتى ينقي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم من الثقة الذي يأخذ منه الحديث ومن الضعيف الذي لا يأخذ منه الحديث.
ومن ذلك القصة المشهورة عن البخاري عندما دخل بغداد، وهذه القصة قال الحافظ ابن حجر: إسنادها فيه كلام، لكن هذه القصة تبين لك أن المحدثين كانوا يعتنون جداً بضبط المحدث وعدالة المحدث.
لما دخل البخاري عليهم قلبوا له الأسانيد والمتون في مائة حديث؛ يأخذون إسناد الحديث الأول ويجعلونه لمتن الثاني، ومتن الثاني يجعلونه في إسناد الأول إلى آخر المائة حديث، والتف الناس حول البخاري يسمعون عنه، فصيته قد وصل إليهم، فوقف أمامهم وكل منهم يسرد عليه عشرة أحاديث، والبخاري في كل حديث يقول: هذا الحديث لا أعرفه، فقال الأغرار الأغمار الذين لا يعرفون عن العلم شيئاً: هذا البخاري من أجهل الناس، ما من حديث يمر عليه إلا ويقول: لا أعرفه! ثم بعدما انتهت المائة قال البخاري: انتهيتم؟ قالوا: نعم، فقال للأول: أما أحاديثك فالأسانيد كذا والمتون كذا، فأخذ متون هذه الأسانيد فركبها تركيباً صحيحاً، ثم أخذ العشرة الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، إلى تمام المائة.
قال الحافظ ابن حجر: ليس العجب من أن البخاري يعلم بأن الأحاديث مركبة في غير أسانيدها؛ لأن له حافظة قوية، وإنما العجب كل العجب أن يحفظ العشرة الأولى والعشرة الثانية والثالثة إلى تمام المائة، ثم يأتي بالمتون الصحيحة فيركبها على الأسانيد الصحيحة!! وقد كان دأب المحدثين اختبار المحدث في ضبطه وإتقانه، من ذلك أن يحيى بن معين عندما دخل على الفضل بن دكين وهو ثقة ثبت حافظ، فسأله يحيى عن بعض الأحاديث، فكان يسرد الأحاديث فانتبه وقال: أدخل علي في حديث، ثم وقف فنظر إلى أحمد بن حنبل فقال له: أنت أورع من أن تفعل ذلك، ثم نظر إلى يحيى بن معين فرفسه برجله فألقاه في الأرض وقال: أنت تجرؤ على ذلك، فلما لامه أحمد بن حنبل قال: دع قولك، والله لرفسته عندي أفضل من مائة حديث أحفظه؛ لأنه تأكد أن هذا جهبذ يحفظ للأمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وللمحدثين طرق يعدلون بها الراوي أو يضعفونه، منها أن ينظروا إلى حفظ الراوي، فأنفقوا الغالي والنفيس من أجل حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم أبو حاتم وأبو زرعة الرازي وعلي بن المديني ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان وشعبة، فهؤلاء وغيرهم اهتموا جداً بعلم الحديث، وصنفوا في ذلك كتب الجرح والتعديل.
فـ علي بن المديني صنف كتباً في علل الحديث، وابن القطان أيضاً له كلام في الجرح والتعديل، وصنف أبو زرعة، وصنف ابن أبي حاتم، ونقل أقوال أبي زرعة وأقوال أبيه أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل، والبخاري صنف كتاب التاريخ الكبير وكتاب التاريخ الصغير.
فكانوا يهتمون برجال الإسناد، وكانوا يقولون: سموا لنا رجالكم، حتى نرى هل هذا الحديث يمكن أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا.
قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
وقال ابن سيرين: كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد؛ لكي يأخذوا أحاديث أهل السنة ويتركوا أحاديث أهل البدعة.
وقد بذل المحدثون غاية الجهد في تتبع الأسانيد وتقصيها حتى رحلوا من أجلها في البلاد، وجابوا الآفاق لكي يعثروا على الإسناد، وقد لاقوا المشاق والمصاعب في هذه الرحلات.
قال الإمام النووي: علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، ومن حرمه فقد حرم خيراً كثيراً، ومن رزقه الله هذا العلم فقد نال فضلاً جزيلاً.