للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم رؤية دم الحيض أثناء الحمل]

امرأة حامل في الشهر الثالث نزل منها الدم واستمر خمسة أيام ثم انقطع، ثم عاود عليها في الشهر الرابع ونزل منها الدم واستمر خمسة أيام، ثم رأت النقاء بعد ذلك، سواء رأت الجفاف أو القصة البيضاء، ثم في الشهر السابع إلى الشهر التاسع وهو ينزل فيها الدم، فهل هذا الدم دم حيض أم دم علة وفساد ومرض؟ كل الأطباء يقولون: هو دم مرض، والقاعدة عندي أني لا آخذ بالطب قبل الشرع؛ إذ إن الطب نظريات تخطئ وتصيب، والشرع وحي من ربنا جل في علاه، ليس فيه محل للخطأ ولا الوهم، والمسألة قد اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: قول الأحناف والحنابلة: إذا رأت المرأة الدم وهي حامل فإن هذا الدم يعتبر دم علة، أي: دم مرض، فعليها أن تنظف المحل وتتحفظ وتصلي كل صلاة، إذ لا يأخذ هذا الدم أحكام الحيض، قالوا: ولنا في ذلك أدلة: الدليل الأول: ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبايا أوطاس -والسبايا: هن الإماء، ويحصل عليهن بأن يجاهد المسلمون ويفتحوا بلاد الكفر ويسبوا نساءهم- (لا توطأ -أي: لا تنكح- حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض)، فمنع الشرع الحنيف من وطء الحامل حتى تضع؛ حتى لا تسقي زرع غيرك بمائك، ثم قال: (ولا غير ذات حمل حتى تحيض) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الحامل لا تحيض؛ لأنه جعل علامة استبراء الرحم في الحامل الوضع، فقال: (لا توطأ حامل حتى تضع)، ثم قال في شأن المرأة الحائل، وهي غير الحامل: (ولا غير ذات حمل حتى تحيض)، فجعل علامة استبراء الرحم فيها أن تحيض، ففيه دلالة على أن الحامل لا تحيض، وإلا لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحامل والحائل، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الحامل لا تحيض، والحائل هي التي تحيض.

الدليل الثاني: ما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عمر أن يأمر ابنه أن يطلق زوجته وهي طاهر أو حامل، فطاهر يعني: خالية من الحيض، وحامل؛ لأنها لا تحيض، فجعل الحمل علامة على عدم الحيض.

القول الثاني: قول الشافعية والمالكية: قالوا: الدم الذي تراه المرأة وقد ثبت معها، وترى بعده الطهر هو دم حيض، وإن كانت حاملاً، وقد توافرت علامته، ودم الحيض له علامات ومقدمات تعرفها المرأة، من ألم في الظهر، وألم في البطن، ثم بعد ذلك الصفات المعروفة لدم الحيض، من أنه أسود وثخين إلى غير ذلك من العلامات، ثم بعد ذلك يعقبه الطهر ورؤية القصة البيضاء.

واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دم الحيض أسود يعرف)، فجعل دم الحيض أسود يعرف، سواء أكانت حاملاً أو حائلاً.

وجاء عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سئلت عن امرأة حامل رأت الدم فقالت: لا تصلي.

فاعتبرت هذا الدم دم حيض، فكأن عائشة تقول: الدم الذي نزل منها هو دم حيض، وانتشرت هذه الفتوى بين ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وغيرهم من فحول الصحابة وأساطين أهل العلم، فلو كانت هذه الفتوى خاطئة لخطئوا عائشة، كما خطأ علي بن أبي طالب ابن عباس في تجويزه نكاح المتعة، وقال له علي: إنك رجل تائه، إن رسول الله حرم نكاح المتعة.

وعندما قال ابن عباس: نكاح المتعة حلال، قام ابن الزبير خطيباً وهو خليفة على مكة فقال: ما لي أرى أناساً قد أعمى الله بصيرتهم كما أعمى أبصارهم يفتون بجواز المتعة! وكان ابن عباس قد عمي بصره في آخر عمره، فهذه الشدة منه لينصر دين الله، ولينصر سنة النبي، فما العلم إلا قال الله وقال رسوله، وليس قال الشيخ الفلاني وقال الشيخ العلاني.

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه وعندما قال ابن الزبير: ما لي أرى رجلاً قد أعمى الله بصيرته كما أعمى بصره يفتي بنكاح المتعة! قال له ابن عباس: وما لي أراك أعرابياً غليظاً؟ فقال له ابن الزبير: تقول ذلك وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة! والذي نفسي بيده! لو سمعتك تفتي بهذا لأرجمنك حتى الموت.

وكأنه يرى أنها زنا، وهكذا كان الصحابة يحافظون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فـ عائشة أفتت بذلك أمام محفل من الصحابة، والصحابة سكوت لا يتكلمون ولا ينكرون، فكان سكوتهم هذا إجماعاً سكوتياً، فكأنهم وافقوا على الفتوى التي أفتت بها عائشة.

هذا من الأثر.

وأما من النظر والعقل: فإن الأصل في النساء الصحة دون المرض، والأصل في الدم الذي يرخيه الرحم أنه دم حيض، ما لم يدل دليل أو تأتي قرينة على أنه دم فساد أو دم علة، فإذا ظهرت القرينة حمل على أنه دم فساد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما ذاك عرق)، وذلك عندما ظهرت له القرينة بأن الدم هذا دم فساد ودم علة.

فإذا تردد الدم النازل من الفرج بين أن يكون دم حيض أو دم فساد ومرض، وإذا تردد الدم بين الأصل والفرع قدم الأصل على الفرع.

<<  <  ج: ص:  >  >>