[الرد على من قال بالجواز]
فإن أثبتنا ذلك بالدليل فلابد أن نرد على المخالف، وردنا على الإمام ابن حزم سيدخل تحت الرد على الإمام مالك؛ لأن أدلة الإمام مالك أقوى من أدلة الإمام ابن حزم، وأنا اجتهدت رأيي أن أستدل لهم بما لهم من أدلة حتى نصل إلى الحق.
أولاً: الدليل الأول: الأصل عدم المنع، فنقول: نحن معكم في هذه القاعدة، والأصل عدم التحريم، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:١١٦]، فالأصل عدم المنع، لكننا قد جاءنا الناقل، الذي نقلنا عن الأصل إلى التحريم، وهو حديث علي المرفوع رضي الله عنه وأرضاه، وكلام عمر بن الخطاب ناقل؛ لأن عمر بن الخطاب وإن خالفه ابن عباس فإن عمر في كفة والصحابة في كفة، وترجح كفته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وهناك خلاف بين الكثير من العلماء في مسألة حجية قول الصحابي، والراجح: أن قول الصحابي حجة، فإن اختلف الصحابة فالخلفاء الراشدين المهديين أربعة في كفة، والأمة بأسرها في كفة، وإن كان الأربعة اتفقوا على أمر، وخالف كل الصحابة فترجح كفة الأربعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
إذاً: الناقل قول علي، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهذان الناقلان للقياس الجلي.
الدليل الثاني: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج)، فهذا عام، وهو قوي صراحة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، والحاج يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وهذا سيكون استدلالاً قوياً إذا قلتم بأن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التبيين، فقد بين المستثنى وهو الطواف، والرد على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الحديث عام، مخصوص بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: (أن الجنابة هي التي كانت تحجز)، وأيضاً قول عمر بن الخطاب: لا تقرأ الحائض القرآن، وقول علي بن أبي طالب لا تقرأ الحائض القرآن، والقياس الجلي من المخصصات المنفصلة، فالقياس يخصص العموم.
إذاً: فهذا عام مخصوص.
الوجه الثاني: القوة في الاستدلال، حيث أنهم قالوا: لو كانت قراءة القرآن محرمة لخصصها النبي صلى الله عليه وسلم كما خصص الطواف.
قلنا: إن المخصص نوعان: مخصص متصل، ومخصص منفصل.
فالمخصص المنفصل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (غير ألا أن تطوفي بالبيت)، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم لهم في المدينة، أي: أن مقامنا وحالنا: أنها داخلة على البيت الحرام تريد الطواف، فكان لا بد من تمام التبيين والتأكيد بقوله: لا تطوفي، أي: أنت ستذهبين فلا تطوفي بالبيت، وكنت قد نهيتك عن قراءة القرآن في المدينة فاستحضري ذلك، فهذا بالمخصص المنفصل، وهو على القول بتصحيح حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
فنقول: هذا مخصص منفصل، ويبقى الأمر على ما عهدوه، وعلموه وتعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم من أن المرأة الحائض لا تقرأ القرآن.
الدليل الثالث: قول ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالكتاب إلى كسرى وقيصر وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، وتلا الآية، وقال: إن ملوك الأعاجم على الكفر وهم على الجنابة؛ لأنهم يجامعون ولا يغتسلون بنية رفع الجنابة، فقلنا الرد على هذا الحديث من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن هذا في غير محل النزاع، وهذا الحديث لا يصح الاستدلال به على هذا الباب؛ لأن مسألتنا في جواز قراءة الحائض لغير الضرورة بل للحاجة، والمسألة هذه على الضرورة، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالآية، وبعث إليه بهذا الكلام ليدعوه إلى الإسلام، وهذه ضرورة، ومحل النزاع ليس في الضرورة.
إذاً: هذا الحديث ليس في محل النزاع، إذ محل النزاع في باب غير الضرورة، وأنت أتيت بحديث في الضرورة؛ لأن الضرورة تبيح المحظور، وقلنا لك: ابعث بالمصحف نفسه للكافر كما قال بعض الفقهاء، وقال الثوري وغيره: ابعث به للنصراني أو الكافر أو أهل الكتاب ليقرأ القرآن لعله يدخل في الإسلام، وهذا جواز من العلماء الذين منعوا القراءة، وهو من باب: أن الضرورات تبيح المحظورات، فهذا الحديث ليس في محل النزاع.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث قد تطرق إليه الاحتمال، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل سقط به الاستدلال، والاحتمال هو: أن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى كسرى وقيصر ومعه الرسالة، فيحتمل أن يكون هذا الرسول هو القارئ، وهو ليس على جنابة، ولا يلزم أن يكون كسرى وقيصر هو الذي يقرأ، فلا وجه لكم في الاستدلال.
أيضاً: قد تكون هذه الآية قد قرأها كسرى أو قيصر مع بعض الكلمات الأخرى التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آية واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم، كما تقرأ المرأة الآية في كتب الفقه، كاستدلال على مسألة الفقه.
واحتمال آخر: أن يكون نائب كسرى أو نائب قيصر كان مسلماً يخفي إسلامه، فقرأ هذه الرسالة.
إذاً: هذه احتمالات تسقط الاستدلال بهذا الحديث، وهي احتمالات قائمة.
الوجه الثالث: أننا نقول: يقرؤها كما تقرأ المرأة الذكر على أنه ذكر، وتقرأ الآية على أنها ذكر عندما تركب الدابة، فتقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:١٣ - ١٤]، ولا تقرؤها على الناس للتلاوة، والعلماء أيضاً قالوا ذلك، قالوا: يقرؤها كسرى وقيصر، ولا يقرؤها على الناس على أنها تتلى، والأوجه من ذلك أننا نقول: إن المحاسب هو المكلف، ونحن نمنع الجنب المكلف، وهذا غير مكلف، والخطاب للمكلف، وإن كانت هذه المسألة أصولية، وقد اختلف فيها العلماء، وهي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فالراجح: أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، ولكن هنا نقول: إننا نحاسب المكلف الجنب، ولا نحاسب الذي يريد الإسلام بقراءة هذه الآيات.
الدليل الرابع: وهو الدليل الذي استدل به مالك وتكلم به شيخ الإسلام في الفتاوى، ألا وهو: بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ووجه الدلالة من ذلك: أنه قال: يحرم على المرأة نسيان القرآن الذي حفظته، فلا بد من أن تحافظ على هذا القرآن، وتحافظ عليه بتلاوته؛ لأنها لو تركت التلاوة نسيت فوقعت في الحرام، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالواجب ألا تنسى، ولا يمكن ألا تنسى إلا بواجب آخر، وهو معاهدة الحفظ، فنقول: جزاكم الله خيراً، والرد على هذا من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن نقول: إن هذا أيضاً في غير محل النزاع، فحرمة نسيان القرآن هو من غفلة الإنسان ونسيانه، وهو المخاطب بذلك، والتحذير من هذا بسبب غفلة الإنسان وكسيه، لا بسبب خارج عن إرادته، والمرأة التي تركت القراءة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليها القراءة، وعلي حرم عليها القراءة، وعمر حرم عليها القراءة، ليس هذا من كسبها، ولا من غفلتها ونسيانها بل هو طاعة لله، فإن كان طاعة لله فلا يدخل في ذلك، ولن تدخل تحت الوعيد، وكأنها تقول احتجاجاً: رب إني تركت القراءة لأمرك، وقرأت وحفظت لأمرك، فتركت لأمرك وحفظت لأمرك، فلا تذم عند الله، ولا تقع في محل هذا الحديث؛ لأن الحديث يختص بالتي تنسى وتفلت القرآن منها، بقصدها وبغفلة منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشتكي في قوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠]، والمقصود: أن هذا ليس في محل النزاع.
الوجه الثاني: نقول: إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أي: لا يمكن تنسى إلا بالقراءة، وهي ممنوعة من القراءة، ولنا آلات ووجهات أخرى يمكن ألا تنسى بها، كما أجمع العلماء، ونقل الإجماع النووي وإن كان في الإجماع هذا نظر! وبالاتفاق قالوا: بأن المرأة الحائض لها أن تقرأ القرآن في قلبها، وفي نفسها، فتمرر الآيات في خاطرها، وتجول في عقلها بالقراءة وفي قلبها، فيثبت ذلك في قلبها، فإن كانت لا تستطيع، وهي لو تدبرت القرآن في قلبها فإنها تردد في لسانها، قلنا لها: دعيك من هذا، وخذي سورة البقرة أو النساء أو السورة التي تحفظيها فاكتبيها في ورق، وأعيدي كتابتها أكثر من مرة طول النهار والليل، وهذه الكتابة ستثبت لك الحفظ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فعليك بالكتابة؛ لأنه لم يرد النهي عن الكتابة، والأصل عدم المنع، ولا تقرئي؛ لأنه قد ورد النهي عن القراءة، فتأخذي الورق بعد ذلك وتحرقيه وتدفنيه، ويمكن أن تراجع عن طريق التسجيل، والحمد لله نعم الله علينا كثيرة، ومن النعم علينا هذا المسجل الأعجوبة في هذا الزمان، فلك أن تأخذي شريط سورة البقرة، أو سورة النساء، أو سورة الأحزاب، أو السورة التي تحفظيها وتضعيه في المسجل، وتسمعيها ليل نهار في أيام الحيض، فتثبت الحفظ عندك أكثر مما كنت تقرئينها، أو تذهبي إلى الدار أو إلى مجالس التحفيظ، أو إلى المكان الذي يحفظ فيه، كالمدرسة مثلاً، فتجلسي تستمعي إلى المحفظة التي تقرأ وهي طاهرة، وتسمعي منها، وتتقني منها الألفاظ دون أن ترددي، وترجعي إلى بيتك تكتبيها في ورقة وتختزنيها حتى تطهري ثم تقرئي.
إذاً: خرجنا من مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ونقول: عندنا أكثر من آلة ليتم الواجب بها، وهو تمام الحفظ، وذلك إما بالقراءة في القلب، أو بالكتابة، أو بسماع من يقرأ من المحفظات أو المعلمات.
فأنا أقول