للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القول الأول]

القول الأول: جماهير أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة: يرون بأنه لا يجوز للمرأة الحائض أن تدخل المسجد.

وذهب ابن حزم وأنصاره وأعوانه إلى جواز دخول الحائض المسجد، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:١٤٨]، وللفريقين أدلة، وسنثبت إن شاء الله الآن أيهما أرجح.

فقول الجمهور يحرم تحريماً باتاً على المرأة أن تدخل المسجد، وإن دخلت للمكث -دون المرور- فهي عاصية آثمة، وعليها الوزر؛ لأنها خالفت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

والأدلة عند الجمهور من الكتاب، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا} [النساء:٤٣]، فقوله تعالى: ((لا تقربوا الصلاة))، هو الشاهد، والصلاة هنا: إما: الركوع والسجود، وإما: موضع الصلاة الذي هو المسجد وموضع الصلاة مؤول، فقوله تعالى: ((لا تقربوا الصلاة) معناه: لا تقربوا موضع الصلاة، والقرينة التي جعلتنا نقول بذلك التأويل هو قوله تعالى: ((ولا جنباً إلا عابري سبيل)) أي: الجنب لا يجوز له أن يصلي، فقوله: ((ولا جنباً)) لا يمكن أن يقصد بالصلاة في الآية: الركوع والسجود، بل المراد مكان الصلاة، ولذلك قال: ((ولا جنباً))؛ لأنه بالإجماع لا تجوز صلاة الجنب، ثم أتم البيان بقوله: ((عابري سبيل)) أي: له أن يمر مرور الكرام من المسجد، والحائض أغلظ من الجنب فتمنع من المسجد، ووجه الدلالة عندهم: أنه إذا منع الجنب من المكث في المسجد للجنابة فمن باب أولى أن تمنع الحائض، وهذا التفسير لـ ابن مسعود، وأنس وابن المسيب، وغير هؤلاء من أساطين أهل العلم، لا سيما وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل المرأة الحائض المسجد، وأن تطوف بالبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، واختلف العلماء في العلة في ذلك: هل المنع هو المنع من الطواف، أم المنع من دخول المسجد؟ ونحن نقول: بأنها منعت من المسجد، ومنعت أيضاً من الطواف، على الراجح من أقوال أهل العلم وهو أن الطهارة شرط في صحة الطواف.

وأما أدلتهم من السنة: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست بيدك)، فإنه لما قال لها: ناوليني الخمرة، قالت عائشة بلسان حالها: إني قد تعلمت منك أن الحائض لا تدخل المسجد، فكيف أدخل المسجد وأنا حائض؟! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم مقراً على فهمها: إن المرأة الحائض لا يجوز لها دخول المسجد، وأقرها على ذلك، لكن بين لها أمراً خفي عليها ألا وهو: (إن حيضتك ليست بيدك)، أي: لا يصح لك الدخول إلى المسجد كما فهمت، لكن إذا مددت يدك وناولتيني الخمرة فإن يدك ليست ككلك، فالصحيح بوجه الدلالة: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها فهمت أن الحائض لا تدخل المسجد، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهمها هذا، ولكن بين لها بأن دخول يدها بالمناولة لا يعتبر دخولاً لها في المسجد، وقال لها: (إن حيضتك ليست بيدك)، بمعنى: فارق الجزء حكم الكل في هذا الحكم، أي: أن اليد لم تأخذ حكم الجسد! وأيضاً من الأدلة التي استدل بها الجمهور: ما رواه البخاري ومسلم عن أم عطية رضي الله عنها وأرضاها: (أمرنا أن نخرج الحيض، وذوات الخدور، يشهدهن الخير ودعوة المؤمنين، ثم أمر الحيض باعتزال المصلى).

ووجه الدلالة: أن الحيض إذا منعت من دخول المصلى فلأن تمنع من دخول المسجد أقوى؛ لأن حرمة المسجد أشد تعظيماً وتوقيراً من حرمة المصلى، فإذا منعها النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً على تلويث المصلى، فلأن تمنع من المسجد من باب أولى، وهذا الحديث فيه دلالة قوية من ناحية النظر على أنه قياس الأولى.

أيضاً: استدلوا بحديث ضعيف، لكن نسوقه استئناساً لا احتجاجاً به، وهو: ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحل المسجد لجنب ولا حائض).

فهذا الحديث الذي رواه أبو داود فيه ضعف في الإسناد، وعلة الإسناد جسرة فإنها لا تعرف، والجهالة في الإسناد تضر، فيضعف الإسناد، ولذلك نقول: هذا الحديث فيه ضعف، ولا يصح الاحتجاج به، وما سقناه إلا استئناساً، والغنية في الأحاديث السابقة والأدلة التي استدل بها الجمهور.

<<  <  ج: ص:  >  >>