للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القول الراجح في حكم قراءة الحائض للقرآن]

والراجح من هذه الأقوال بإذن الله وبحوله وقوته: وقولي: الراجح، أي: أن غيري مرجوح؛ لأني أقول: الكلام في هذه المسألة على أني أرى أن الذي أتبناه هو الصواب، والذي يتبناه المخالف على خطأ، والصواب يحتمل الخطأ، والخطأ يحتمل الصواب، وهذا الذي أقوله هو ما قاله الشافعي أو قاله علماؤنا، فالراجح الصحيح هو قول الجمهور، من أن المرأة التي تقرأ القرآن وهي على حيض آثمة عاصية لله جل وعلا، وأنها تستحق العقاب بقراءتها للقرآن على هذه الحالة؛ لأن الأدلة واضحة ظاهرة جداً على التحريم، وسأناقش هذه الأدلة حتى أكون منصفاً.

فالأدلة التي استدل بها الجمهور: أولاً: حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه الذي في السنن، وهو: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب القرآن)، فهذا الحديث عن ابن عمر قد رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، والدارقطني، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، وإسماعيل بن عياش ثقة في الشاميين، أي: هو ضابط عند علماء الجرح والتعديل، إلا أنهم يوهنون حفظه في غير الشاميين، أي: هو ضعيف في غير الشاميين، وهذه الرواية صراحة هي عن أهل الحجاز، وأهل العراق، فهو يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق مناكير، كما قال البخاري: يضعف في روايته عن غير الشاميين، وهذا الحديث أنكره أحمد.

فالحديث في إسناده ضعف، وهو ضعيف، والحجة عند العلماء: أن الحكم فرع عن التصحيح، فهذا حديث ضعيف؛ لأن في سنده إسماعيل بن عياش؛ ولأن إسماعيل بن عياش أتي من قبل حفظه في غير الشاميين، ويمكن أن نناوش في هذا الإسناد، ونبين أن هذا الإسناد يحتمل التحسين، وأن بعض العلماء صحح هذا الإسناد، فنقول: يحتمل التحسين لأدلة، منها: أولاً: أن إسماعيل بن عياش الذي يخشى منه الوهم والخطأ، وعدم الضبط، قد جاءتنا أدلة تدل على أن إسماعيل قد ضبط لنا هذه الرواية، وعند ذلك الإسناد يرتقي إلى الحسن لغيره، لا سيما وأنا سأبين لكم كلام الشيخ أحمد شاكر، وهو كلام نفيس جداً، فالشيخ محدث المصريين المعاصر، ومفخرة المصريين المعاصرين، قال الشيخ أحمد شاكر في شرحه على الترمذي بعدما سرد أن العلماء ضعفوا هذا الحديث من قبل إسماعيل بن عياش، قال: وأكثر ما في رواية ابن عياش الخوف من الغلط فيه؛ لأنه يهم في غير الشاميين، فمتابعة مثل عبد الملك بن مسلمة -وهذا وهم من الشيخ أحمد شاكر؛ لأن عبد الملك بن مسلمة ليس هو المتابع، وليس من نفس طبقة إسماعيل بن عياش، بل من طبقة سابقة عن طبقة إسماعيل بن عياش - قال: فمتابعة مثل عبد الملك بن مسلمة مع احتمال الخطأ ترفع خطأ إسماعيل بن عياش، لا سيما وأن عبد الملك بن مسلمة وثقه الدارقطني، وهذا يؤخذ على الشيخ أحمد شاكر من وجهين: الوجه الأول: أنه وهم على الدارقطني، فـ الدارقطني لم يوثق هذا الرجل، ولذلك نرى أن الشيخ الألباني وتلاميذه تركوا مسألة الطبقات، وتركوا المتابعة، وكأنهم ظفروا بخطأ الشيخ أحمد شاكر، ونزلوا على الشيخ، وعلى وهم الشيخ على الدارقطني، وأنا أقول: انظروا إلى صلب قول الشيخ، فالشيخ أحمد شاكر يقول كلاماً نفيساً جداً، يقول: الخوف في هذا الإسناد من وهم إسماعيل، وإسماعيل يمكن أن يرتفع وهمه بالمتابعة التي توضح لنا أنه لم يخطئ في هذا الحديث، وضبط لنا هذا الحديث، وهذا الكلام نفيس جداً، لاسيما كما قلت: بأن الذي تابع هو المغيرة، والمغيرة مصري ثقة ثبت، وثقه علماء الجرح والتعديل، وهو الذي يتابع إسماعيل بن عياش، فـ عبد الملك بن مسلمة الضعيف ليس هو المتابع، بل المغيرة هو المتابع.

ولذلك صحح ابن سيد الناس متابعة عبد الملك، وقال: إنه هو المتابع، وصحح المتابعة على أن هذا هو عبد الملك بن مسلمة القعنبي تلميذ مالك، وهو الثقة الثبت، ومن أحفظ الناس الذين رووا الموطأ، وهذا وهم من ابن سيد الناس تابع فيه ابن عساكر، فـ عبد الملك بن مسلمة ليس هو القعنبي، بل هو آخر، لكن أبى علينا المضعفون بهذه المتابعة، وقالوا: حتى بالطريق التي فيها عبد الملك بن مسلمة فالإسناد ضعيف.

فنقول: يقوي بعضهم بعضاً، والإسناد ضعيف، لكن له شواهد، منها: حديث جابر بن عبد الله وأنس وعائشة، ولكن هذه الشواهد -صراحة وإنصافاً- لا تصح أن تكون شواهد؛ لأن فيها أناساً اتهموا بالكذب، وأناساً متروكين، أي: فيها رواية متروكين فلا يصح أن نستشهد بهم على هذه الرواية.

إذاً: الرواية الأولى ضعيفة، لكنها تحتمل التحسين، لا سيما أن المغيرة قد تابع إسماعيل بن عياش، لكن يبقى الإسناد ضعيفاً.

الرواية الثانية: حديث علي بن أبي طالب، وهذه الرواية بفضل الله صحيحة، خلافاً لمن ضعفها، فقد صححها الأكابر من أهل العلم بالحديث، فهذا الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه: (لم يكن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن سوى الجنابة)، وقد رواه أحمد في مسنده، ورواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي، والدارقطني من طريق شعبة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وصحح هذا الحديث الترمذي، والترمذي وإن قال بعضهم: إنه متساهل في التصحيح، لكنه من المتقدمين في عصر الرواية، والترمذي صاعقة في الحفظ، كان أعمى، وكان أحفظ الناس في زمانه، بل من أنجب تلاميذ البخاري، ومن أنجب علماء العلل، وهو ليس بالهين في علم الحديث، فـ الترمذي صحح هذا الحديث، وابن السكن وعبد الحق، والبغوي، وروى ابن خزيمة في إسناده عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، أي: حديث علي بن أبي طالب ثلث رأس مالي، يبين صحة هذا الحديث، وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن من هذا، أي: في الباب، وهذا يدل على صحة الحديث.

ولذلك لم ير الحافظ ابن حجر في الفتح -فتح الباري- إلا أن يحسن هذا الحديث، وقال: هو من قبيل الصحيح الذي يحتج به، وهذا الإسناد حسن لم يؤخذ عليه إلا عبد الله بن سلمة، وهو رجل اختلف علماء الجرح والتعديل فيه توثيقاً وتجريحاً، والعلماء الذين ينظرون في هذه المسألة ينظرون في المجرح، وينظرون في الموثق، والمجرح والموثق له قواعد في علم الحديث حتى يرجح قولاً على قول، وسأبين لكم المجرح والموثق، وكيف نرجح بين القولين، فهذا الراوي عبد الله تغير بآخره، قاله الحافظ ابن حجر، قال الشافعي: إن كان هذا الحديث ثابتاً ففيه دلالة تحريم القرآن على الجنب، وكذلك على الحائض، لكن هذا الحديث لا يثبتونه.

قال البيهقي: إنما قال الشافعي ذلك؛ لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير بآخره، وعند المحدثين فرق بين تغير واختلط، فالاختلاط أعم، وكل مختلط متغير ولا عكس، والتغير أول درجات الاختلاط، فلا يضعف الراوي بالتغير، بل في الصحيح روايات عمن قيل فيه: قد تغير بآخره.

قال: وأكثر ما قيل في عبد الله بن سلمة أنه تغير بآخره، وإنما يروي الحديث بعدما كبر، قاله شعبة.

وعبد الله بن سلمة المرادي الكوفي عدله أقوام، وتكلم فيه آخرون، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، لاسيما وأن الراوي عنه شعبة، الذي كان ينتقي ممن يروي عنه، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، قال ابن عدي: أرجو أن يكون لا بأس به، وهذا أيضاً توثيق.

إذاً: الموثقون ابن حبان والعجلي، وأيضاً يعقوب بن شيبة، وابن عدي صاحب كتاب (الكامل) وهو من أنفع الكتب التي روت الأحاديث المختلف في رواتها.

أما المجرحون: قال البخاري: لا يتابع على حديثه، أي: كأنه ينفرد، وانفراده فيه نكارة، قال أبو حاتم: تعرف وتنكر، أي: تنكر منه بعض الأحاديث، وتعرف أي: يوافق ويخالف، وقال شعبة: كان يحدثنا فنعرف وننكر، أي: يوافق الثقات ويخالف، وكان قد تغير بآخره.

فهذه أقوال المجرحين والموثقين، فالموثقون قد بينوا أنه ضابط، تقي، ثقة، وأما المجرحون فقد جرحوا في ضبطه، وأنه قد تغير في آخره.

إذاً: كل الجرح مداره على التغيير، والتغيير لا يكون قدحاً في الراوي، حتى نطرح حديثه بهذه الطريقة، لاسيما وأن شعبة يقول: ثلث رأس مالي، ولاسيما وأن الحافظ يقول: صدوق -بعدما يجتهد الحافظ في ترقية الصدوق-

<<  <  ج: ص:  >  >>