[معرفة الله حق المعرفة]
ثم إن النار إذا دخلها من دخلها من عصاة المؤمنين فإن الله جل وعلا لن يجعل للنار سلطاناً كاملاً على أجسادهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود).
وأما قول: لا إله إلا الله، فإن الإنسان لا يمكن أن يقولها حق القول حتى ربه تعالى، فإن من لوازم ذلك أن يعرف الله جل وعلا حقاً، وحتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة أن يعرف ويتمكن من أن يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله لابد أن يكون هناك علم ويقين بالرب تبارك وتعالى، وحتى يكون هناك علم ويقين بمعنى هذه الكلمة وجلالتها لابد أن يذهب ويلجأ إلى المصدر الأول في فهمها وهو كلام الله، ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأول ما ينبغي على العبد فيها ألا يستكبر عند سماعها، وألا يدخله أنفة عند علمه بمعناها، قال الله جل وعلا عن أهل معصيته: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٥ - ٣٦].
الأمر الثاني: لابد أن يكون هناك علم حق بالله عن طريق ما ذكره الله جل وعلا في كتابه من وجهين: الوجه الأول: تعريف الله بذاته العلية.
والوجه الثاني: تعريف الرسل بربهم.
فأما تعريف الرسل بربهم فقد حكاه الله على لسان محمد عليه الصلاة والسلام، وأكثر ما حكاه على لسان إبراهيم وموسى، فإن إبراهيم عليه السلام لم يشهد خلق السماوات والأرض ومع ذلك قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٧٥ - ٨٠].
فذكر أن الله جل وعلا هو الذي فطر السماوات والأرض، ثم قال: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:٥٦].
ونبيه كليم الله موسى قال له فرعون بكل تبجح: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:٤٩]؟ فأجابه الكليم عليه السلام بقوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠]، فعاوده فرعون
السؤال
{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١]؟ فتأدب موسى مع ربه لا مع فرعون فقال: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٥٢]، فهذا مما جرى على ألسنة بعض الرسل في التعريف بربهم.
وأما الرب جل وعلا فلا أحد أعلم به منه، ولله جل وعلا في كتابه العظيم في تعريفه بذاته العلية طريقان: الطريق الأول: ذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
والطريق الثاني: ذكر خلقه تبارك وتعالى.
فتعريفه بأسمائه الحسنى: كقوله جل وعلا في آخر الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:٢٢] إلى آخر السورة، وتعريفه جل وعلا بالخلق كقوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:٤٣ - ٤٤].
فمن نظر بعين التدبر فالسحب مخلوق واحد، فجمع الله جل وعلا فيها أضداداً أربعة: جمع فيها الماء غوثاً لمن أحبه، وجعل فيها الصواعق من النار تحرق من أراد الله أن يصيبهم بها إما نقمةً أو نعمة، ولا يجتمع الماء والنار لكن الله جمعهما في مخلوق واحد، والسحب إذا تراكمت وأطبقت حجبت نور القمر وضوء الكواكب، وأصبح الناس في ظلمة، فإذا خرج منها وميض البرق أضاء للناس، ولا يجتمع النور والظلمة في مصدر واحد، لكن الله جل وعلا بقدرته وحكيم صنعته ونفاذ مشيئته جعل فيها النور والظلمة، والماء والنار في آن واحد، ولا يقدر على هذا إلا الله.
فإذا تحقق عقلاً ونقلاً أنه لا يقدر على هذا إلا الله وجب ألا يرجا ولا يدعا ولا يسأل ولا يعبد أحد غير الله.
فإذا تحرر عقلاً أنه لا أحد يستحق أن يعبد أو يرجى إلا الله وجب أن يتحقق قلباً أن الله وحده خالق كل شيء، وأن بيده سبحانه مقاليد كل شيء، وأنه جل وعلا إليه مصير كل حي، والله جل وعلا يرزق كل شيء، إذا تحرر هذا آخر الأمر يأتي اللسان يترجم ذلك المعتقد وهو قول المؤمن: لا إله إلا الله، فلا يريد بها بعد أن استقرت في قلبه وعلم حقيقة معناها إلا ربه جل وعلا، فإذا وصل إلى هذه المرحلة كافأه الله جل وعلا بأن الله يحرمه على النار.
هذا المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يوافي الله عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي وجه الله إلا حرمه الله جل وعلا على النار)، وما سلك أحد في باب، ولا طرق أحد مجالاً يبتغي فيه نفعاً أعظم من نفع أن يعرف الإنسان من خلاله ربه تبارك وتعالى، فمعرفة الله جل وعلا هي الحياة كلها، فمن عرف الله وعبده وأحبه جل وعلا فلا يضره ماذا فقد.
وهذا والعياذ بالله لم يعرف الله، فلم ينفعه أي شيء حصل عليه؛ لأن الله جل وعلا وحده هو من بيده الجزاء والحساب.
هذا ما يمكن التعليق عليه من قول نبينا صلى الله عليه وسلم.