[شرح حديث أبي موسى: (مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل)]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: نستأنف بفضل الله جل وعلا وحمده وتوفيقه المجلس الرابع في تعليقنا الموجز على كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، ونبدأ مستعينين بالله جل وعلا علا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الانتهاء من المعاصي.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قوماً فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، النجاء النجاء، فأطاعه طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم).
هذا الحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة مثل، والمثل هو: الصفة العجيبة الشأن التي يذكرها البليغ لتفهيم المعنى، وتقريب المفهوم إلى الناس، هذا هو المقصود بالمثل من حيث الجملة، والعرب تقول المثل وتريد به ثلاثة أمور: تريد به إصابة المعنى، وحسن التشبيه، والإجازة في اللفظ.
والمثل ذكره الله جل وعلا في كتابه، وجاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر ما ضربه الله جل وعلا من أمثال في القرآن قوله جل وعلا: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:٣٥].
ومعلوم أن نور الله جل وعلا أعظم من ذلك كله، لكن الله جل وعلا ذكر هذا المثل جرياً على سنن العرب في كلامها أنها تذكر الأمثال وتريد بها أن تقرب الأمر إلى الناس.
وقد ذكروا أن أبا تمام الشاعر العباسي المعروف وقف بين يدي أحد الأمراء يمدحه، فكان من قول أبي تمام في هذا الممدوح: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس فقال بعض الحاضرين: إن الأمير فوق من ذكرت، ما زدت على أن شبهت الأمير بأجلاف العرب، فكان لا بد من أبي تمام أن يرد على ما قاله هذا الرجل، فقال: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس يريد أبو تمام أنه إذا كان الله جل وعلا قد ضرب مثلاً لنوره من المشكاة والنبراس فمن باب أولى أن يضرب هذا المثل لهذا الأمير بصناديد العرب وأجلافهم على تعبير أول.
والمقصود بالمثل تقريب المعنى، والنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلا بالهدى، ودين الحق، والنور المبين، والمعجزات الظاهرة، والأدلة الباهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهذا مهم أن تفهمه حتى تربطه بالحديث- قبل أن ينبأ لم يجرب عليه ولم يعرف له للناس غشاً، ولم يجرب عليه أن يتقول على أحد، ولم يجرب عليه أن يطلب مجداً لنفسه أو لآبائه.
فهذه كلها كانت صفاته عندهم، فكانوا مقرين له بذلك صلى الله عليه وسلم، ثم أيده الله مع هذا الأمر الذي كان فيه أيده الله بالقرآن والمعجزات، إذاً: فما العلاقة ما بين المثل الذي ضربه صلى الله عليه وسلم وحالته هو؟ قال عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل ما بعثني الله به) أي: من الهدى والدين والحق والنور، (كمثل رجل رأى جيشاً بعينيه، ثم أتى قومه فقال: إني النذير العريان)، هذا المثل اختلف الناس في أصله، لكن أظهر الأقوال أن أصله: أن رجلاً من العرب أسره جيش وهم مقبلون على قومه، فلما أسروه سلبوه ثيابه فأضحى عرياناً، ثم استطاع أن يفلت منهم، فلما انفلت منهم دخل على قومه وحذرهم الجيش، وقال لهم: إني رأيت الجيش بعيني.
فالآن نأخذ الهيئة النبوية مع هيئة هذا النذير، فهذا النذير صدقه قومه؛ لأن الرجل لم يجرب عليه من كذب من قبل، وليس من عادته التعري، وظاهره يدل على صدقه؛ لأنه كان عرياناً، ولا يعلم عنه كذب، ولا يعرف عنه غش، فصدقه الناس ربطاً بين أمرين: بين ماضيه بين واقعه، فماضيه ليس فيه شيء يثرب فيه عليه، وفي نفس الوقت واقعه يدل على صدقه، فقد جاءهم عرياناً، وقد قلنا: إنه لم يجرب عليه من قبل أنه يتعرى.
قال صلى الله عليه وسلم: (فأطاعته طائفة، وكذبته طائفة)، نعود لهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم على شخصه هو عليه الصلاة والسلام، فهو لما قدم بالنبوءة والرسالة أول الأمر على خديجة، قالت له رضي الله عنها وأرضاها: (إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتصل الرحم، وتنصر المظلوم) وذكرت أوصافاً فيه صلى الله عليه وسلم، وقومه كانوا يعلمون ذلك منه، فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه: هل جربتم عليه كذباً من قبل؟ قال: لا.
قال هرقل: ما كان ليكذب على الله وقد ترك الكذب على الناس، فهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم شبيه جداً بحالته، وفيه اختصار، وهم يسمعون بهذا الرجل النذير العريان، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أنا النذير العريان)، والجيش المقصود به الفتن والنار، وآثار الكفر.
(فأطاعته طائفة وكذبته طائفة) وانظر: فقد قال في الأولى: فأطاعته، وقال في الثانية: كذبته، وليست الطاعة ضد التكذيب، ولا التكذيب ضد الطاعة، لكن هذه أمور تدل عليها لوازمها، فلما قال: فأطاعته طائفة، ولا طاعة إلا بعد التصديق، ففي المثل هؤلاء صدقوا صاحبهم فأطاعوه فنجوا.
قال عليه الصلاة والسلام: (النجاء النجاء) يعني: الإسراع الإسراع؛ لأن الأمر لا يحتمل، وهي منصوبة على الإغراء، ويصح فيها التخفيف (النجا النجا) من غير همز، هذه لغويات لكن الذي يعنينا الآن قال: (فأطاعته طائفة)، فلا طاعة إلا بعد التصديق، وأنت لن تطيع أحداً حتى تصدقه، لكنه قال في الثانية صلوات الله وسلامه عليه: وكذبته طائفة، والذي ينجم عن التكذيب هو العصيان؛ لأنهم ما داموا كذبوه ولم يقبلوا قوله فإنهم لن يستمعوا له، فسيعصونه فيقع عليهم الهلاك.
فوصف من أطاعه بالتصديق دون أن يصرح به؛ لأن من لزوم الطاعة التصديق، ومن ثمراتها النجاة والفوز يوم القيامة، وذكر في الثانية: التكذيب؛ لأن من لوازمها العصيان، ولم يصرح به، ومن ثمراتها عياذ بالله: الخسران المبين، والهلاك في النار.
فهذا مثل حي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً مشهوداً برسالته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه، وحال اختلاف الناس فيه عليه الصلاة والسلام، والعلم عند الله.