شرح حديث:(لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)].
هذا الحديث يتعلق بقضية فتنة المال، وقد مر بعضها معنا، فأخبر الله جل وعلا أن النفس البشرية مجبولة على حب المال، فقال:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر:٢٠]، وقال:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات:٨] والخير هنا هو المال، فهذا الشيء المجبول في النفوس إذا ترك على سجيته ولم يلجم بلجام التقوى ولم يؤدب بأدب القرآن أفرط صاحبه فيه، يقول عليه الصلاة والسلام:(لو كان لابن آدم واديان) ورفعت واديان بالألف لأنها مثنى؛ وسبب رفعها أنها اسم لكان، (لو كان لابن آدم واديان لابتغى ثالثاً) أي: ابتغى ثالثاً للواديين، ولا يعني ذلك أنه لو حصل على الثالث لاكتفى، ولكن المقصود الطمع الذي جُبل عليه بنو آدم، ثم قال:(ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وهذه كناية على أنه لا يشبع أبداً، ثم قال استدراكاً -وهذا من أبواب الرحمة التي يفتحها النبي لأمته وفق ما بلغه ربه- قال:(ويتوب الله على من تاب)، فهي دعوة لمن أفرط على نفسه بحب المال حتى طلب هذا المال من غير وجهه، أو على وجه محرم عياذاً بالله.
وعلى هذا نؤصل فنقول: إننا لا يمكن أن نحيا من دون مال، فقد جعل الله المال عصبة للناس به يقومون، لكن الرب تبارك وتعالى أخبر أن تحصيل المال إما بطريق طيب وإما بطريق محرم، فأباح الله لنا تحصيله عن طريق الطيبات، وحرم الله علينا تحصيله عن طريق ما حرمه وحجبه جل وعلا ونهى عنه، فعلى هذا إذا كان الإنسان لا يمكن أن يشبع مهما جلب له من المال فحري به أن يكتفي؛ لأنه لن يشبع أبداً، فعليه أن يكتفي بالمباح ويكتفي بالطيب ولا يستمر في غوايته؛ لأن لو كانت القضية أنه سيصل إلى مرحلة الاكتفاء لقلنا في غير الشرع لا بأس حتى تصل إلى مرحلة معينة، لكنه من طلبه على وجهه من غير أن يلجمه بالتقوى فلن يشبع أبداً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(لابتغى ثالثاً) أي: وادياً ثالثاً غير الواديين المليئين بالمال.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:(ويتوب الله على من تاب) فالإنسان مهما بلغ في التقوى وارتقى في الصالحات وسارع في الخيرات وسابق في الطاعات فإنها تبقى عند العبد لمم وصغائر، وأحياناً عند البعض تبقى الكبائر، لكن الله يقول وهو أصدق القائلين:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:٨٢]، والتوبة وظيفة العمر لا يستغني عنها أحد، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:٣١] فأمر بها الأنبياء والرسل وسائر الناس، والتوبة إلى الله جل وعلا تغسل الران الذي على القلوب، وتقرب من رحمة علام الغيوب، وبها يعرف العبد أنه على مقربة من الله، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يبادر إلى التوبة بالفرس المعقود له في مكان ما، فهو مهما بعد يعود إلى موطن رسمه، على هذا تجديدك للتوبة في كل يوم أو في كل ساعة، واستغفارك ربك من أعظم دلائل عدم مسرتك بالمعصية، قال عليه الصلاة والسلام:(من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن)، وعلي بن ربيعة رضي الله عنه يقول: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه وقد قربت له دابة، فلما وضع قدمه في الركاب قال: بسم الله، ثم لما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}[الزخرف:١٣] وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وحمد الله ثلاثاً، وكبر ثلاثاً، ثم قال: سبحانك ربي ظلمت نفسي فاغفر لي، ثم ضحك فقلنا: يا أمير المؤمنين مم تضحك؟ قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل الذي صنعت ثم ضحك، فقلنا: يا رسول الله مم تضحك؟ قال:(إن رب العالمين يعجب من عبده إذا قال: سبحانك ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي، يقول جل وعلا: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري)، وكم من عباد منّ الله عليهم بالاستكانة والخضوع إذا تذكروا معاصيهم، فكانت معاصيهم سبباً في ثباتهم على الدين، وكم من عباد عياذاً بالله يفرحون بالطاعة وحق لهم في الأصل أن يفرحوا بالطاعة لكن يصيبهم علو واستكبار على من دونهم، فينقلب أثر الطاعة إلى أثر غير حميد، لأن الإنسان لم يسلك به طريقاً شرعياً؛ والمقصود من هذا كله أن فتنة المال من أعظم الفتن، ومع ذلك فتح الله جل وعلا باب التوبة.