والحديث كذلك يمكن أن يعرج فيه على قضية الغبن، والغبن شعور في القلب، وأصله من الطي، وكلمة (غبن) هي الكلمة التي يستخدمها العامة اليوم فيقولون: خبن، في كلمة الثياب، إذا طوي الثوب يسمونه خبناً، وهي نفسها مرادفة لـ (غبن)، وهي شيء في الصدر لا يستطيع الإنسان أن يبوح به خاصة إذا غلب وقهر، وأهل الفضل والعلم إذا ذكروا الغبن ذكروا ما جرى لـ سيبويه أبي بشر إمام النحاة رحمة الله تعالى عليه، وأنه خرج من بلده فاختصم معه الكسائي والفراء -وهما إمامان في النحو- في مسألة عرفت بالمسألة الزنبورية، فسأل الفراء قبل مقدم الكسائي سيبويه عنها وهي: كنت أظن أن العقرب أشد لسعاً من الزنبور فإذا هو هل هي بالرفع؟ أو إياها بالنصب؟ فقال سيبويه بالرفع، وقال: إن العرب لا تعرف هذا، أي بالنصب، ولم يقبل أولاً أن يجادل الفراء وقال: أنتظر حتى يأتي رئيس بلدكم، يقصد الكسائي، فلما قدم الكسائي جرت في تلك الحالة أو الحادثة أمور سياسية نجم عنها أنهم انتصروا للفراء والكسائي على سيبويه، فخرج يتوارى من الناس من سوء ما لحق به من الظلم والغبن، ثم خرج إلى بلدة فيها أحد طلابه ومات هناك وهو صغير السن رحمة الله تعالى عليه، وقد بلغ من العمر آنذاك أربعة وثلاثين عاماً.
وقد ذكرنا هذا لأننا نتكلم إلى طلبة علم، ونجم هذا من الكسائي والفراء غفر الله لهما على علو كعب الكسائي في القراءات وعلو كعب الفراء في العلم، إلا أنه نجم من التحاسد في الدنيا، وقد صاغ حازم القرطجني رحمة الله تعالى عليه هذه المسألة: لكنها أعيت على الأفهام مسألة إلى آخر القصيدة، وقال في آخرها: ولا يخلو امرؤ من حاسد أظم ثم ذكر قضية انتصار الكسائي والفراء ظلماً على سيبويه رحمة الله تعالى عليه.
فقال: والغبن في العلم أشجى محنة علمت وأبرح الناس شجواً عالم ظلما والقصة طويلة لعلك ترجع إليها في (مغني اللبيب) لـ ابن هشام، أو في شرح الشنقيطي على كتاب القيرواني في فقه مالك أو في غيرها من المواطن التي ذكرت هذا الخبر، والمقصود منه: أن الإنسان ينبغي عليه أن يكون سليم الصدر في التعامل مع أقرانه، هذا ما تيسر ذكره على هذا الحديث المبارك، والله تعالى أعلم.