[شرح حديث: (لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار)].
هذا الحديث النبوي فيه دعوة إلى أن يكون الإنسان في حال سيره إلى الله مابين الخوف والرجاء، وهذا هو المقصود الأسمى من الحديث، والسير بهذا المنوال يخرج به الإنسان من طائفتين ضلتا في هذا الباب، فالمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان شيء، فمن كان راجياً فقط وترك الخوف دخل في طائفة المرجئة، ومن أفرط في الخوف دخل في طائفة المعتزلة والخوارج الذين يرون أن مرتكب الكبيرة يكفر ويخلد في النار ما لم يتب قبل أن يموت، فالمؤمن لديه هداية وعقيدة وسطية حسنة، فيكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الرجاء وما بين الخوف في سيره إلى الرب تبارك وتعالى، على أنه ينبغي أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لما يئس من رحمة الله جل وعلا)، فالنفي هنا لما يستقبل، وقد قال أهل العلم: إن النفي إذا تضمن المستقبل فمن باب أولى أن يتضمن الماضي، وقالوا: كون الكافر ييئس من دخول الجنة لأنه لا يعلم سعة رحمة الله، وعلم الكافر بسعة رحمة الله منتف قطعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم)، وهذا النفي للمستقبل، فمن باب أولى أن يجري على أحكام الماضي، وهذا الفهم الذي فهمه بعض العلماء أنا أتحرج من تبنيه، لكنني عموماً أقول: إن المقصود بالحديث: أن يحرص الإنسان على أن يسير في جانبي الخوف والرجاء، ويجعل كما قال الصالحون من قبل: محبة الله رأس الطائر، والجناح الأيمن الخوف من الله، والجناح الآخر الطمع في رحمة الله.
قال الله جل وعلا: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:١٦]، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:٥٧]، وينبغي أن تعلم من حيث الجملة أن أقسام أهل القبلة ثلاثة: فائزون ومعذبون وناجون، وتحرير هذا: أن الفائزين ينقسمون إلى قسمين: المقربون وأصحاب اليمين، وهم قوم أتوا بأصول الإيمان وأحكموها، وأدوا الفرائض، وقاموا بالواجبات، وسابقوا في الطاعات، ثم اختلفت منزلة اليقين عندهم، فانقسموا إلى فريقين مقربين وأصحاب اليمين، وهؤلاء كلهم تحت مظلة ما يسمى بالفائزين، هؤلاء هم القسم الأول، جعلني الله وإياكم منهم.
وهم المعنيون أصلاً في الثناء القرآني: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:١١١]، فاجتنبوا الكبائر، ولم يصروا على الصغائر، ووقع منهم ما وقع من عظيم الطاعات وجلائل الإيمان، فنالوا الفوز، وينقسمون إلى قسمين في ذاتهم: مقربون وأصحاب يمين.
القسم الثاني: المعذبون، وهم قوم مؤمنون موحدون، لكنهم جاءوا بكبائر ولم يتوبوا قبل الموت، فالأصل أنهم معذبون إن لم تتداركهم رحمة الله جل وعلا، لكن مآلهم أخيراً إلى الجنة؛ لأنهم موحدون.
والثالث: هم الناجون، ونقصد بالناجين الناجين من النار، أو بتعبير أصح السالمون من العذاب، وهؤلاء ليس لهم طاعات، فيدخل فيهم المجانين، ومن ماتوا صغاراً، وأشباههم ممن لا يمكن وضع ضابط لهم، لكن وضع الضابط أن يقال: ليس لهم معرفة ولا حجود، ولم يقع منهم لا طاعة ولا معصية، بصرف النظر عن السبب، وقد يندرج فيها مثلاً أولاد الكفار، طفل أبواه كافران، مات وهو في الثانية أو في الثالثة وهو رضيع، فهذا لم يعرض عليه دين حتى يرده أو يقبله، ولم تعرض عليه ملة حتى يجحدها أو يقبلها، فهؤلاء نقول: الأصل أنهم ناجون من النار، ثم نتوقف في قضية الجنة.
وقال بعض أهل العلم: وأمثال هؤلاء يصلح أن يكونوا من أهل الأعرف، ولا ريب أن قولنا: يصلح أن يكونوا من أهل الأعراف لا يعني الجزم؛ لأن من قواعد العلم أن الكلام في الغيب لا يعرف لا بذكاء ولا باستنباط ولا بأي شيء آخر، وإنما يعرف بالنص، فالغيب من الصعب التحدث فيه إلا بنص صريح صحيح عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس بين أيدينا هذا النص، والمقصود أن هذا هو التقسيم العام لأهل القبلة: ناجون ومعذبون وفائزون من قبل.
لكن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر:٣٢ - ٣٣].
قالوا وفي قول الله جل وعلا: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:٣٣] هي واو الجماعة في (يدخلونها) وهل تعود على الثلاثة أو على الأخير منهم؟ بكل قال العلماء، لكن رجح شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه وبعض أهل العلم من قبل أنها تعود إلى الثلاثة، فإذا قلنا: إنها تعود إلى الثلاثة: إلى الظالم لنفسه وإلى المقتصد وإلى السابق بالخيرات فقد قال بعض أهل العلم هذه على هذا التفسير هي أرجى آية في كتاب الله جل وعلا، حتى قال بعض أهل العلم: إن واو الجماعة في قول الله جل وعلا: {يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:٣٣] تستحق أن يكتبها المؤمن بماء عينيه لا بحبر قلمه؛ لما فيها من ظهور الرحمة، وأن الله جل وعلا رحيم عفو كريم بعباده جل وعلا.
ونقول كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إلا أن يتغمدني الله برحمته)، والله جل وعلا خلق أسباباً وجعل لها مسببات، وحتى التوفيق بالعمل الصالح وقيامك به هذا من رحمة الله جل وعلا بك، فغاية الأمر ينتهي إلى أن الإنسان يوفق إن كان قد حظي برحمة الله جل وعلا، وينبغي أن تعلم أنه لا يهلك على الله إلا هالك، وأنه لن يدخل النار أحد إلا وهو مستحق لها، وإلا فالله جل وعلا أرحم وأجل وأكرم من أن يعذب من لا يستحق العذاب.