[شرح حديث: (إنما الناس كالإبل المائة)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)].
هذا الأسلوب يسمى أسلوب حصر عند البلاغيين؛ لوجود إنما.
و (إنما) عند النحويين يقال لها: كافة ومكفوفة، ومعنى كافة ومكفوفة: أن (إنّ) الحرف المشبه بالفعل الأصل أنه يعمل، فينصب الاسم الذي هو مبتدأ أصلاً -ويسمى اسمه، ويرفع الخبر، فإذا دخلت عليه (ما)، كفته عن العمل، فيقول النحاة جملة حتى يستريحوا من عناء التحليل: كافة ومكفوفة، فالمكفوفة هي (إن)، والكافة هي (ما)، وهي تستخدم هنا لأسلوب الحصر.
(إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيهم راحلة) الراحلة هي الإبل، وتنقسم إلى قسمين: راحلة وحمولة، والحمولة هي التي يحمل عليها المتاع.
والراحلة ما يركب عليها، فالذي يحمل عليها المتاع كثيرة، وأما الإبل النجيبة الصالحة للركوب المسماه راحلة فهي قليلة جداً، لكنها كلها تشترك في أنها حمولة، قال الله جل وعلا: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:١٤٢].
وهذا الحديث اختلف الناس فيه على معنيين ذكرهما الخطابي رحمه الله.
المعنى الأول: أن الناس متساوون الشريف منهم والوضيع، فكلهم متساوون في الدين، مثل الإبل كلها تصلح أن تكون حمولة، هذا المعنى الأول، وهو بعيد.
والمعنى الثاني: أن النقص في الناس كثير، وأن الفضلاء من الناس قليل جداً، والكاملين من الرجال قليل كنسبة الراحلة في الإبل.
قال الإمام النووي رحمه الله معقباً على قول الإمام الخطابي قال: وهذا أجود، أي: القول الثاني أجود.
وهذا من أساليب الترجيح.
على هذا المقصود جملةً من الحديث أن الناس إذا رأيتهم على ظاهرهم فإنك تكاد تزكيهم جميعاً، فإذا بلوتهم وصحبتهم إما في السفر، أو في التعامل بالدينار والدرهم، أو في الحقوق، فإنهم يختلفون اختلافاً جذرياً، فلا يكاد يثبت منهم إلا القليل.
وهنا تفهم وجه ارتباط الحديث الثاني بالحديث الأول، فالحديث الأول يتحدث عن الأمانة، وإذا وجدت أمانه وجد حسن التعامل.
فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس كالإبل المائة) يعني: لا يوجد فيها راحلة إلا قليلاً.
وهذا ظاهر، فكم من الناس من يتقدم لأهل بيت يريد أن يتزوج منهم وظاهره الصلاح، فإذا زوجوه وتحقق أنه حصل على مراده إذا به تظهر منه أخلاق لم تكن موجودة، فيأتي الناس الذين زوجوه يستغربون فيقولون: سبحان الله! هذا يصلي ويذهب يغدو ويروح، وزكاه فلان، وأنت ترى عليه بعد ذلك من الأمور ما لا يكاد يصدق، فإما أن يبخس زوجته في المال والدينار والدرهم، أو يتسلط على مالها بغير وجه حق، أو يضربها ضرباً مبرحاً لا حاجة له، هذا في أحواله مع زوجته.
وقد تجد أحياناً من الناس من تراه حسناً، فإذا تعاملت معه في عقد أو بيع أو شراء أو تعامل أظهر لك من الخيانة والتسويف، أو حتى لو أجرته دارك أو أجرته سكناً ترى منه من التسويف ما الله جل وعلا به عليم، ولا يعطيك حقك، وترى فيه من التغير ما يثبت قول النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يظهر ذلك عليه في السفر، وإنما سمي السفر سفراً، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وإنما يبتلى الرجال حق الابتلاء بالسفر، فمن الرجال رجال أوفياء أجلاء يخدمك أكثر مما تخدمه، يقول أحد التابعين: صحبت ابن عمر في سفر لأخدمه، فكان يخدمني، ففي الأسفار تتجلى أخلاق الرجال؛ لأن السفر فيه وحشه، والوحشة تغير الطبع، فإذا تغير الطبع يجب أن يتحمل كل منا الآخر، فالعرب تقول: إذا عزّ أخوك فهن، وإذا كنتما في ديار غربة فيجب أن يتحمل كل منكم الآخر؛ حتى يصدق عليكما أن تكونا كاملين.
والنبي عليه الصلاة السلام يقول (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع)، هذا والله أعلم.