[شرح حديث ابن مسعود وأنس في الأمل والأجل]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج عمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذا جاءه الخط الأقرب)].
هذا الحديثان كما سمعتم وذكرناهما في مكان واحد لتقارب معنييهما، وبيان ذلك كالتالي: هناك أمل، وهناك تمن، وهناك ترجي، وهنا أجل وهنا عرض، ونفصل كالتالي: الترجي يكون فيما يغلب على الظن وقوعه، والحرف المناسب له (لعل)، قال الله جل وعلا على لسان كليمه موسى: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف:٦٠] فتوافر أسباب بلوغ موسى لمجمع البحرين موجودة؛ ولهذا سمي هذا ترجي.
وأما التمني فيكون أقرب إلى الخيال، وهو في الشيء الذي قد فات وانقضى ولا سبيل إلى ارتجاعه، أو في الشيء الذي يستحيل أن يقع مما قدر الله أنه لا يكون، والحرف المستخدم له (ليت)، ومنه قول العرب: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب فقطعاً إن الشباب لا يعود بعد زواله وانتهائه وذهابه.
وأما الأمل: فيمكن أن تقول: إنه بينهما، والمقصود به: حب زيادة الغنى والعمر.
وأما الأجل: فهو الوقت الذي كتبه الله جل وعلا على كل أحد بعينه أن تفارق روحه جسده.
فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يرشد الناس كيف يتعاملون مع الآمال والأماني والترجي ومع آجالهم بضرب الأمثال، وضرب الأمثال سنة في القرآن وسنة في الحديث، فهو عليه الصلاة والسلام يملك عاطفة ملحة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فلما ذكر مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم شبك بين أصابعه، ولما ذكر اليتيم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه السبابة والوسطى)، فكل ذلك تقريب للناس.
وهو الآن في محفل بين أصحابه فوضع نقطة على أنها بني آدم، وأحاط هذه النقطة بمربع على أنه الأجل، والمربع محيط ببني آدم، والخطوط الأربعة محيطة ببني آدم، أي: أنه لا مفر من الأجل، والأعراض العرض بسكون الراء ضد الطول، وتأتي عرض مقابل النقدين، {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:٩٤]، لكن المقصود هنا الآفات والحوادث التي تمر على الفتى.
فمن أصابته تلك الآفات والحوادث ولم تهلكه ونجا منها فإن ذلك لا يعني أبداً أنه سينجو من الموت أو ينجو من غيرها، وحتى لو نجا من غيرها فإن الموت واقع لا محالة، لكن الأمل جعله النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً عن ذلك المربع، فهو خارج من حيث الصورة في ذهن بني آدم، وهو في الحقيقة ليس بخارج، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذ جاءه الخط الأقرب)، وقد اتفقت كلمة العلماء على أن الخط الأقرب هو خط الأجل.
والإنسان في هذه الدنيا يسير فتارة تعرض له أسقام أو حوادث أو كوارث فينجو ما دام في العمر بقية، وحتى لو نجا ولا أعني ذلك النجاة من الموت، لكن طول الأمل يكبر مع بني آدم كما سيأتي في الحديث، وقديماً يقولون: لولا الأمل لما عاش ابن آدم.
قال الطغرائي في لاميته: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وهذه اللامية تسمى لامية العجم، ويقابلها لامية العرب للشنغري، ومطلعها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل وكان عمر يأمر الناس أن يحفظوا لامية العرب، ولم يأمرهم أن يحفظوا لامية العجم؛ لأن الطغرائي متأخر عن عمر بأزمنة، وأما الشنغري فجاهلي، فـ عمر بلغه شعر الشنغري وتأديبه للناس في لاميته.
والمقصود من هذا أن الإنسان يؤدب نفسه بأخبار الأولين، والغاية من هذا أن يعلم الإنسان أن هناك أملاً، فينبغي أن يكون استثمارنا للأمل محدوداً أو بتعبير أصح مقيداً بالشرع، فلا نغرس في الناس اليأس، لكن كذلك نجنبهم الأمل الكاذب الذي يدعوهم إلى التسويف، وتأخير التوبة، والإغراق في المعاصي، ونحيي فيهم الأمل في لقاء الله تبارك وتعالى، واستثمار الطاعات، وعلو الهمة، والوصول إلى الغايات، وعدم اليأس من رحمة الله جل وعلا، وعدم القنوط من فضله، فهذا أمر محمود، لكنه يكون مذموماً إذا كان يدعو إلى التسويف والبعد عن الرب تبارك وتعالى.
هذا ما يمكن التعليق عليه على هذا الحديث المبارك.