والفرق بين الغريب وعابر السبيل أن كليهما ليسا من أهل الوطن، لكن الغريب يقيم مدة غير قصيرة، فهو غريب عن البلدة، لكنه مقيم فيها شهوراً أو أعواماً.
وأما عابر السبيل فإنه عابر ماض ليس له بتلك البلدة حاجة، ولهذا نرجح أن تكون (أو) هنا للإضراب، والمقصود منها الانتقال في حالة ابن عمر من كونه غريباً إلى عابر للسبيل، والسبيل: الطريق، وهي تؤنث وتذكر، قال الله جل وعلا:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}[الحجر:٧٦].
والمقصود من هذا: وصيته صلى الله عليه وسلم أن الدنيا معبر، قال أحد الصالحين في وصيته الشهيرة لابنه: ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجد لما خلقت فالدنيا مزرعة للآخرة، وهذه وصية نبوية من نبي عليه الصلاة والسلام من أعلم الخلق بالله، ومن أعلم الخلق بما ينفع الناس في الدنيا، (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فإذا كان الإنسان يحيا في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل فلا يزاحم الناس في دنياهم.
فإن تجتنبها تجتنبها بعزة وإن تجتذبها نازعتك كلابها ثم قال ابن عمر رضي الله عنه استقاءً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالقول الثاني قول ابن عمر وليس قول النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)، ومحال جداً أن يأتي إنسان بفهم صوفي للحديث، فيظن أن الإسلام يجعلنا نركن في بيوتنا إذا أصبحنا ننتظر الموت، وإذا أمسينا ننتظر الموت صباحاً، محال أن يدعونا الإسلام إلى هذا، لكن المقصود: أن الإنسان يدفع نفسه في طاعة الله جل وعلا كمن يترقب الموت، وفي نفس الوقت الإنسان إذا كان تاجراً وأصبح وأخذ بوصية ابن عمر:(إذا أصبحت فلا تنتظر المساء) فإن ذلك يمنعه من الغش، والإنسان إذا كان شاباً فتياً فإذا علمه أنه إذا أمسى أو أصبح قد يلقى الله فإن ذلك يمنعه من أن يزيغ بصره ميمنة وميسرة، وإن كان حاكماً منعه خوفه من لقاء الله وقرب الأجل منعه من أن يظلم أو أن يجور أو يفتح على الناس باب شر.
وعلى هذا يمكن أن تقيس كل شيء، هذا هو المعنى المقصود من قول ابن عمر:(إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)، وهو مستقىً من قول النبي صلى الله عليه وسلم:(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وقد قيل: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام قيل له: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان: دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، ثم قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:(وخذ من صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك)؛ لأن الصحة لا يعقبها إذا زالت إلا السقم، والفراغ لا يعقبه إذا زال إلا الشغل، ويعقب الاثنان الهرم، ويعقب بعد ذلك كله الموت.
فالدنيا مطية إلى الآخرة لا محالة، وهذه وصية نبوية في عدم الركون إلى الدنيا، والله تعالى أعلم.