الأخ الفاضل يتكلم عن الغيرة على الأمة، ويتكلم عن قضية الجهاد وأحكامه، ويقول كلاماً طيباً، لكنا نقول: إن المشكلة تكمن في أن الأمة ما بين واقع مشهود وأمل منشود، وردم الفجوة هذه بين واقعها وبين أملها هو الذي أصاب الناس اختلاف كثير في قضية كيفية التعامل مع الواقع، فيقع الخبط أحياناً والميل، كما يقع أحياناً التكاسل، وعدم بذل أي سبب في نصرة دين الله، وكلا الفريقين مخطئ، لكن الله جل وعلا جعل هناك أسباباً شرعية وأسباباً قدرية، ولن يكون هناك جهاد ورفعة للأمة حتى يجتمع السببان القدري والشرعي، فالشرعي: الإيمان والعمل الصالح، ومحبة الناس بعضهم لبعض، وقيامهم بواجب الدين، والقدري: أن يعينهم الله ويمكن لهم القدرة على الأخذ بأسباب الحرب، وهو قول الله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ}[الأنفال:٦٠]، فهذا كله اجتمع لنبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون الذين معه في مكة يصلون ويصومون وكانوا خيرة أهل الأرض، فالسبب الشرعي كان موجوداً، وليس بعد وجوده صلى الله عليه وسلم، فهو النبي، وأربعون ثم ثمانون ثم ثلاثمائة كانوا في مكة كلهم صالحون؛ لماذا لم يكن هناك جهاد؟ لأن الجانب القدري ما اكتمل، مع أن الجانب الشرعي موجود، فلا أحد يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا مفرطين مقصرين لا ينصرون، ومع ذلك ما فرض الجهاد؛ لعدم السبب القدري، فلما ذهب إلى المدينة وأسس دولة الإسلام جاء السبب القدري، ثم إن هذا السبب القدري والشرعي كذلك أحياناً قد يقربان وقد يبعدان، وأحياناً قد يبقيان وأحياناً قد يضمحلان، فيكون واجب الجهاد أو العمل الجهادي مرتبط بالحالين: بالقدري والشرعي، والنبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه النصر بشارة من الله قال:(امضوا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين)، ففي بدر حارب ثلاثمائة مقابل ألف، فالعدو هنا ثلاثة أضعاف المؤمنين، لكن لما جاء في يوم الخندق وضربته العرب عن قوس واحدة، ولم تكن قريش لوحدها وإنما كانت عدة قبائل غطفان وقريش وغيرها ما حارب صلى الله عليه وسلم؛ لأن السبب القدري هنا اختل، فتحصن عليه الصلاة والسلام بالخندق وامتنع عن المحاربة، ولم تقع حرب:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}[الأحزاب:٢٥]، فلم يجازف صلى الله عليه وسلم بالأمة رغم وجود السبب الشرعي؛ لعدم وجود السبب القدري، فالذي يريد أن يتحدث بأي مسألة في دين الله جل وعلا يحاول قدر الإمكان أن يشد الزمام على الآلية التي يتكلم بها، وأن يملك زماماً آلياً في العلم حتى يتكلم عن الله وعن رسوله؛ لأن الكلام عن الله وعن رسوله توقيع عن رب العالمين، لكن لا يعني هذا أن يتهم الناس أو أن يظن بأي أحد من الناس السوء؛ لأنه دعا إلى خير؛ لأن الناس من حقهم أن يكون فيهم حرقة وغيرة وكمد وأسى وحزن على ما يحدث بأمة الإسلام، وعلى ما يحدث بالمسلمين، فهذا لا يرضي أحداً يرجو الله واليوم الآخر، ولا يرضي مؤمناً أن يقتل مسلم خاصة إذا قتل مسلم على يد كافر، فلا يفرح بهذا مسلم، لكن حتى ينتصر الإنسان كذلك لا بد نحن أعناقنا مطايانا محنية للدليل من كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فما فقهناه من الكتاب والسنة نعمل به، وجمع الناس على إمام وحد واجتماع كلمتهم ووحدة أمرهم هذا أمر دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقرره القرآن، فلا ينبغي العزوف عنه بأي حال من الأحوال، ولا المجازفة في هذه المصلحة تحت أي ستار كان؛ لأنه ليس من المعقول يأتي إنسان ينثرها ثم يقول: نبنيها من جديد، هذا في ألعاب الأطفال (ينثرها ثم يبنيها من جديد)، وأما في حياة أمم فما يمكن الإنسان أن ينثرها ثم يقول: نبني أمة، لكن الإنسان يكمل، أما الإنسان يرمي الأمة أشتات كل إنسان ينادي على منبر، وكل إنسان يدعو لوال أو يدعو لسلطان أو يدعو لأمير، ثم يرجو بعد ذلك أن يجتمعوا! محال، فهذا شيء جُبلت النفوس عليه، أي: على حب السلطة، وعلى حب التصدر، فهذه فطرة في الخلق إلا من عصمه الله، لكن الإنسان يأتي للأمر الموجود، يقول ابن تيمية رحمه الله: وليس العاقل من يهدم مصراً ليبني قصراً، أي: يهدم وطناً كاملاً لكي يبني قصراً، والإنسان يبدأ من الخطوات، كإنسان ابتلي بأب فيه فجور أو فيه فسق، وعنده أبناء بعضهم فجرة وبعضهم طيبون، وبعضهم وسط وسط، فيقول: خلاص نعيد من جديد: هذا ما هو أبونا خلوه خارج، ونبدأ من جديد نسوي بيتاً! فهذا ليس عقل، لكن العقل أن يشدد لحمتهم مع بعضهم البعض، ثم يحاول أن يصلح قدر الإمكان ما استطاع، ثم مع الأيام تعود الأمور إلى وضعها الطبيعي، فهذا هو المنهج الذي شرعه الله في الإصلاح؛ فالذي يريد شيئاً شرعياً هو مجبر -إن كان صادقاً- أن يسير على نهج الشرع، وأما الذي يريد شيئاً غير شرعي فبدهي أن يسلك طريقاً غير شرعي، وهذا الذي تراه هو الذي أخر الأمة سواءً على مستوى الجهاد، أو على مستوى السياسة، وحتى على أي مستوى، وأخر الناس حتى على مستوى حياة الأفراد بصرف النظر عن حال الأمة، وحتى أحوال بعضنا في الوصول إلى ما نريد أننا نريد ما عند الله بطريق غير الذي شرعه الله، فمثل فاعل ذلك لا نقول: إنه كافر، أو ما إلى ذلك! هذا محال، لكنه إما متعجل أو جاهل، أو دخلت فيه أهواء، وأنا أتكلم هنا على صورة أفراد ولا أتكلم عن قضايا الأمة، أتكلم حتى في إنسان يطلب علماً ويريد أن يكون شيخاً محبوباً فاضلاً فهذا يطلب من الله ولا يطلب من الناس شيخ يسمع الناس لك! ما هذه إلا من الله، فيه منهج شرعي وضعه الله، ووالله لو فعلت ما فعلت ما تحصل عليه، لكن أنت حتى تنتهي القضية اطلب ما عند الله، وثق تماماً أنك ستصل اليوم أو غداً، وحتى لو لم تصل أنت أصلاً لا تريد أن تصل بهذه الطريقة، لكن الله جل وعلا من أراد شيئاً عنده يؤدبه جل وعلا فيبتليه بأشياء يشعر هو أنها تقربه من الهدف، فإذا كان رجلاً أراد الله به ألا يصل سلك هذه الأشياء على عجلة من أمره، وإذا أراد الله له أن يصل ترك هذه التي تعجل به ولزم الذي شرعه الله، حتى ولو غلب على ظنه أنه سيتأخر ١٠٠ عام، فإذا كنت أنت على منهج الحق فستصل، ومثال ذلك أنا الآن في الرياض وسأعود إلى المدينة، وجئت براً، فإذا قررت أن أعود إلى المدينة إذا سلكت طريق المدينة الذي هو طريق القصيم لو مشيت بالسيارة عشرة بل لو واحد يدفني بالسيارة من وراء ما دام أنا على طريق القصيم فسأصل إلى المدينة؛ لأن نهاية الطريق المدينة، فما دمت أنت على الطريق فستصل، لكنني لو أخذت جهة أخرى كطريق مكة مثلاً فأنت حتى لو مشيت ١٨٠ ومشيت ٢٠٠ سقت همر، أو على طائرة هيلوكبتر فما ستصل؛ لأن الطريق ليس نهايته المدينة فلن تصل، وهذا تماماً في حياتك اليومية، فالذي يريد منهج الله يلزم شرع الله، فهذا كتاب وهذه سنة، ولذلك لما تجادل حتى بعض طلبة العلم في الوصول أو في بعض قضايا الأمة يقول: يا أبو هاشم والله ولو بعد سبعين سنة سنوصل، إيه لأنك أنت حسبت بحسابك أنت، ومن قال لك إنك أنت ستصل بجهدك؟ أنت مطالب بأمرين: أن يكون الهدف لله، وأن يكون الطريق قد رسمه الله، فإذا كنت صادقاً فستصل، وأما إذا شرعت في طريق آخر حتى لو كان الهدف صحيحاً فلن تصل، لكن ينبغي أن يكون الطريق إلى الهدف وفق منهج الله.
يا أخي الله يقول لنبيه:{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:٩٣ - ٩٤] أي: فحتى أنت يا نبينا قد نميتك قبل أن ننتهي منهم، يعني: تأخذ وتعطي معهم فتموت والأمر معهم ما انتهى، فإذا كان هذا جرى حكماً على النبي فكيف من دونه! لكن الناس يريدون أن يصلوا بعجلة، فمن يظن أن الطريق الذي ابتكره أفضل من ذلك الطريق فهو من غير أن يشعر يظن أن طريقه مقدم على طريق الله، ولهذا يقول الله:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}[فصلت:٣٥] أي: ثبتوا على منهج الله، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في يوم عام الحديبية، وهو نبي وما هو بقائد سياسي، بل نبي يوحى إليه، جبريل غداء رواح عليه، ومعها ألف وأربعمائة، سيصل صلوات الله وسلامه عليه للحديبية فتمنعه قريش، فجن جنون الصحابة وقالوا: هذا شيء لا يعقل، فلما جن جنونهم قال:(إنه ربي ولن يضيعني)، أدخل السنة هذه، أدخل بعد عشرين سنة، فهذا شيء ما لي شغل فيه فأنا ماشي على المنهج الصحيح، فحبسها حابس الفيل، أي: الناقلة، فعرف لما خلأت القصواء أنه لن يدخل مكة؛ فجاءه عمر فأخذ يعاتبه، وعمر يرغب حقاً، ويطلب رفعة الإسلام، لكن هذا منهج فمتى ما وصل وصل، فرجع صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:١]، فأخذ يرجعها صلى الله عليه وسلم يترنم بها، ثم في العام الذي بعده بعامين -فالحديبية كانت في سنة ست، والفتح كان في سنة ثمان- دخل صلى الله عليه وسلم مكة، لكن هذا أمر يبتليك الله به، وهذا أمر ليس فقط في أحداث الأمة وفي طلب العلم، وإنما يطرى في كل شيء، والله يبتليك بالخادم قبل أن يبتليك بابنك، ويبتليك الله بابنك قبل أن يبتليك بجارك، ويبتليك الله بأن تعطي قبل أن يبتليك الله بأن تمنع؛ ولهذا الله يقول:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:٤٣]، فيأتي إنسان يدخل عليه في دائرة حكومية، وهو همه أن يظهر عند الناس أنه رجل متواضع، فإذا جاءه رجل وجيه أو رجل يعلم أنه سيبلغ عنه تراه يمشي حافياً إليه ويكرمه، فيخرج هذا يقول: تصدقوا بالله الدلة ما طلب الخادم بل هو صبها لي، فهذا العمل قد يكون لله وقد يكون لغير الله، وهو نفسه يعرف ذلك، وأنا لا أتكلم عن أحد بعينه، لكن هو إذا كان صادقاً هل يصنع هذا مع غيره؟ إن جاءه شخص ما يعرف أحداً، ولا يمكن أن يقول للناس: إن هذا حصل، هل تصنع هذا معه أو لا؟ فهذا كله في حياة الإنسان فيربي نفسه على الطريقة الصحيحة، فهذا أمر دونه خرط القتاد في التربية، لكن هذا كتاب الله، و