[شرح حديث: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر)].
هذا في نفس السياق الأول، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ينوع في خطابه؛ حتى لا يصيب الناس السآمة والملل، هذا من وجه، والناس أصلاً يختلفون في طريقة التعامل لغوياً، والمقصود توصيل المعنى، فقال في الأول في أسلوب شرط: (لو كان لابن آدم واديان)، وهنا قال صلوات الله وسلامه عليه مستفهماً، وهذا الاستفهام تمهيد للعرض، فالأسئلة في الغالب تقع على ثلاثة أحوال: الحال الأول: سؤال استفهام يقصد به المعرفة، كأن تسأل: أين طريق كذا؟ فأنت تريد أن تعلم جواباً ترفع به الجهل عن نفسك، فهذا يسمى سؤال استفهام.
الحال الثاني: سؤال اتهام، فتسأل أحداً وأنت في صياغتك لسؤالك تتهمه، والعاقل هنا لا يجيب على مثل هذه الأسئلة إذا كان السؤال ورد على أنه سؤال اتهام، فقد يأتي إنسان مثلاً فيحكم عليك قلبياً قبل أن يراك بشيء معين، ثم يأتي يسألك أمام الناس، فحتى لو نفيت الأمر عن نفسك لأدخل حججاً وطرائق يثبت به سؤاله، فهذا يسمى سؤال اتهام، فالعاقل في الغالب لا يجيب على مثل هذا، هذا الحال الثاني.
الحال الثالث: أسئلة لا يراد بها رفع الجهل عن النفس لكنها تقع على ضربين: إما رفع الجهل عن الغير، أو تقع تمهيداً للتعليم، فأما الأول -وهو رفع الجهل عن الغير- فيسمى سؤالات جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام لما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ثم وضع يديه على فخذيه، وقال: أخبرني عن الإسلام؟ فهذا استفهام لكن جبريل لا يريد أن يعرف ما هو الإسلام حتى يرفع الجهل عن نفسه، فجبريل هو الذي جاء بالإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بلغه الشرع عن الله، لكنه أراد أن يعلم من حول النبي من الصحابة، وقال: أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الساعة؟ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي أن علمي وعلمك فيها سواء.
هذا هو الأول.
والثاني منهما: التمهيد لما بعده، وهو الذي بين أيدينا، فقوله عليه الصلاة والسلام لجمهرة الصحابة الذين حوله: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) يعلم صلى الله عليه وسلم أن كل أحد ماله أحب إليه من مال وارثه، لكنه أراد أن يكون ذلك مدخلاً ليخبرهم بالمال الحق الذي ينفعهم، فالهمزة في أيكم همزة استفهام، (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحد مال وارثه أحب إليه من ماله)، فلما تقرر هذا منهم بأفواههم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله) أي: الحق (ما قدم، ومال وارثه ما أخر)، فما تدخره لمن بعدك، سينتفع به من بعدك فليس في الحقيقة يعتبر مالاً لك، وما قدمته بين يدي الله جل وعلا من النفقات والزكوات والصدقات وأردت به وجه الله هو المال الحقيقي لك، ونسبه النبي لك لأنه ينفعك يوم القيامة، وأما الشيء الذي لا ينفعك فلا يعتبر ملكاً لك، وما ينفعك يعتبر ملكاً لك ولو لم تملكه.
ولهذا قال الله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩]، والمعنى لو أن إنساناً مثلاً عليه ديون، والدين مرغب في الشرع أن يخفف الإنسان منه، فلما مات جاء رجل آخر فسدد دينه عنه، فالمال المسدد به الدين ليس مالك على وجه الحقيقة، لكنه لما نفعك كان كأنه مالك؛ لأن ما ينجم عنه من حبسك في القبر بسبب الدين انتفى بسبب أن ذلك الأخ الذي سدد عنك نفعك بماله، فلما نفعك ذلك المال أصبح كأنه مالك، والنبي صلى الله عليه وسلم في تربيته للصحابة نحن نجهل الآن المناسبة الذي تكلم فيها النبي عليه الصلاة والسلام، لكن إذا جمعنا الأحاديث بعضها إلى بعض عرفنا أي منهج عظيم كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه، فتارة يجنح إليهم في ما تتعلق به النفوس ويتحدث عن الأموال، كما هذه الأحاديث الذي اختارها البخاري في كتاب الرقاق، وتارة يتحدث عن النوافل في الصلوات وكأن الدين ليس فيه إلا صلاة، فإذا اطمأن إلى أنهم فقهوا ذلك خرج به منحاً آخر وتكلم عن حق الجار، فإذا أدركوا حق الجار جاء بمجلس آخر فكلمهم صلى الله عليه وسلم عن حق الضيف، فإذا اطمأن إلى أنه أقام مجتمعاً مسلماً خاف عليهم أن يركنوا إلى الدنيا فيكلهم عن أخبار الآخرة وأيام اللقاء بين يدي الله، ويحدثهم عن الجنة والنار؛ حتى لا تعلق قلوبهم بالدنيا، ثم يحدثهم تارة عن الجهاد في سبيل الله وأن به يرفع الذل ويطلب العز، وكأن الدين ليس فيه إلا السيف والرمح، ثم يأتي في موقف آخر فيقول: (لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا)، وهذه التربية النبوية من يريد أن يستقي منها ويستفيد لا ينظر إلى باب واحد، ولكن يأخذ الدين أخذاً شمولياً، وينظر في أحاديثه صلى الله عليه وسلم وفي القرآن من قبل نظرة شمولية تجمع أبوابها، لكن الإنسان إذا كان في حياته لا يقرأ إلا باباً واحداً في العلم فإن هذا الباب يبقى مسيطراً عليه.
وفي إحدى الأمم -بدون تسمية حتى لا تكون تزكية- غير المسلمة يقولون: من ليس في يده إلا مطرقة فإنه يرى كل الناس مسامير؛ وهذا حق لأن الذي ليس في يديه إلا مطرقة فإن أي شيء يريد أن يطرقه سواء كان قابلاً للطرق أو غير قابل للطرق، فالذي يأتي لفنون العلم ولا يقرأ إلا باباً واحداً حتى يشعر بوجوده، فيطبق هذه الأحاديث على كل شيء حتى يشعر أنه استفاد؛ لأنه إذا لم يجد لها مسلكاً شعر بالنقص، ولا أحد يحب النقص في نفسه، لكن من أراد أن يعلم كيف يستقي من معين محمد صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى السيرة العطرة والأيام النضرة جملة، وإلى الأحاديث في أبوابها كلها، ويضم الضمائم بعضها إلى بعض، ثم يفقه متى يقدم ومتى يؤخر، ومتى يطالب بهذا ويقدم هذا المنهج الحق في فهم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أحسن النووي رحمه الله تعالى صنعاً لما جمع أحاديث كتابه العظيم (رياض الصالحين)؛ فإنه لم يترك باباً إلا تكلم فيه، وجمع فيه أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تيسر إلقاءه في آخر هذا المجلس سائلين الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والعلم عند الله جل وعلا، ونجيب فيما بقي من الوقت على أسئلتكم.