[أفضلية الليل على النهار وأحب الأعمال فيه إلى الله]
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:٥٤]، والليل والنهار مخلوقان من مخلقات الله، جعل الله جل وعلا لعباده الصالحين في كل واحد منهما عملاً، جاء في الحديث: (أن الله جل وعلا يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ولله جل وعلا عمل في النهار لا يقبله في الليل، وله جل وعلا عمل في الليل لا يقبله في النهار، إلا أن ظاهر القرآن والسنة يدل إجمالاً على أن الليل أفضل من النهار، وآخر الليل أفضل من أوله، ذلك أن الله جل وعلا نجى لوطاً وبنتيه سحراً، قال سبحانه: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:٣٤]، وأمر نبيه وكليمه موسى بن عمران عليه السلام: أن اسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون، وأسرى الله جل وعلا بأشرف خلقه، وسيد رسله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلاً، كما أخبر جل وعلا صريحاً في كتابه، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:١].
قال ربنا: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:٥٤]، جعل الله جل وعلا الليل والنهار مطيتين للأعمال، وسيفد العباد كافرهم ومؤمنهم، إنسهم وجنهم بين يدي الله، فيجد كل أحد منهم ما قدم من أعمال في ليله ونهاره بين يدي الله، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، ولئن كان الليل من حيث الجملة أفضل من النهار فإنه لا عبادة في الليل تعدل القيام بين يدي رب العالمين في جوف الليل الآخر.
افتقدت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الليل، قالت: (فوجدته في المسجد ساجداً قد انتصبت قدماه، يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
فصلاة الرجل في جوف الليل الآخر أعظم ما يجعل المرء المؤمن يختم له بالأعمال الصالحة، بل إنه من أعظم ما يقي المؤمن الفتن، قال صلى الله عليه وسلم وقد قام ذات ليلة فزعاً: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).
أيها المؤمنون: إنه ينبغي على الإنسان أن يأخذ حظه من النوم في ليله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عنه أبداً أنه قام ليلة بأكملها، لكن ينبغي للمؤمن أن يكون جزء من ليله ولو يسيراً لربه، يقف فيه بين يدي رب العالمين جل جلاله، يعفر جبهته بالسجود، ويسجد للرب المعبود جل جلاله، يبث إلى الله شكواه، ويسأل الله بإلحاح رضاه، يستجير بالله من النار، ويسأل الله الفكاك منها، ويرجو الله الجنة، ويسأله بإلحاح أن يدخله إياها، يسأله كل خير يؤمله، ويستعيذه من كل شر يخافه، قال صلى الله عليه وسلم يوصي معاذاً وقد أحبه: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٦ - ١٧])، والله لو أن أحداً من ملوك الدنيا أخفى لأمته ورعيته وشعبه جائزة لأحسن الشعب والرعية والأمة الظن بمليكها، فكيف الظن بما أخفاه رب العالمين جل جلاله؟ كيف الظن بما أخفاه أرحم الراحمين تبارك وتعالى؟ كيف الظن بما أخفاه من لا تنفد خزائنه أبداً جل جلالة؟ فالليل من حيث الجملة أفضل من النهار، ولئن كان لله عباد غضيضة عن الشر أعينهم، محزونة قلوبهم، قريبة دموعهم، فإن لله جل وعلا خلقاً غير ذلك، نسأل الله لنا ولكم العافية، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
إن لله خلقاً لم يعرفوا أهمية الليل، وما جاء فيه عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه، فهذا يقضيه أمام الشاشات، وآخر يقضيه في اللهو والمجون، وآخر يقضيه في التعرض لأعراض المسلمات، وآخر يقضيه في غير ذلك، وكل سيفد على الله، وكل سيجد عمله، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨].
قال ربنا: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:٥٤]، ثم قال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، ما الشمس والقمر والنجوم إلا مخلوقات من مخلوقات الله، لا تدبر من أمرها شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر وقد غابت الشمس: (أتدري يا أبا ذر أين تغيب؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي فتسجد تحت العرش فتستأذن ربها فيأذن لها، فليأتين عليها يوم فتستأذن فلا يؤذن لها، فتطلع على الناس من حيث غربت فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).
ومع أن العرب والناس جميعاً -حتى في عصرنا- يضربون المنتهى في الجمال لمن أحبوه ولمن بهتوا أو فتنوا بجماله من رجل أو امرأة، يضربون له مثلاً بالشمس والقمر، فقد كتب الله الكسوف على الشمس والخسوف على القمر حتى يعلم العباد أنهما آيتان من آيات الله، تخسف وتكسف، وأن ما لا يحول ولا يزول ولا يتغير هو وجه الله تبارك وتعالى العلي الأكرم.