أيها المؤمنون! وكما أن القرآن جاء بالوسطية في هذا، فقد جاء القرآن بالوسطية في بناء الدول وقيام الحضارة، فالعرب في جاهليتهم كانوا لا يحتكمون إلى أحد يغلب عليهم الهوى والتعصب، وقد سمى الله أيامهم أيام جاهلية يحتكمون فيها إلى أهوائهم وإلى قوتهم وغلبتهم، كثر فيهم النهب والقتل والسلب، حتى قال قائلهم: وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا وكان من الحضارات القريبة منهم حضارة كسروية تقوم على تأليه الفرد كما هو موجود عند فرعون حين قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}[غافر:٢٩]، وما هو موجود عند النمرود عندما قال:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}[البقرة:٢٥٨]، وما هو موجود عند كسرى في الفرس، وقيصر في الروم، ثم جاءت الحضارة المعاصرة الغربية فأخذت الطغيان من الفرد، وأعطت مفاتيحه ومقاليده للمجتمع، فجعلت المجتمع يحكم نفسه بنفسه كما قاله أغلب الناس -ولو كان شاذاً طبعاً وشرعاً-: إذا صوت الناس عليه، وقبلوا به، أصبح لزاماً على الناس أن يقروه، يحفظه الجيش، وتقوم عليه الشرطة، ويحرسه القانون، ولو كان ذلك مخالفاً لشرع الله، فأخذوا الطغيان من الفرد في الحضارة القديمة، وأعطوا الطغيان للجماعة في الحضارة المعاصرة؛ أما دين الله فلا ينظر إلى الحاكم المسلم إلا أنه رجل يسوس الرعية بشرع الله جل وعلا، فلا سلطان مطلق إلا سلطان الرب تبارك وتعالى، فنبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم البشر على الإطلاق لم يكن له أن يحكم إلا بما أراه الله من الحق الذي نزّله الله جل وعلا عليه في كتابه، وجعل الله جل وعلا لولي الأمر المسلم بيعة في الأعناق وسمعاً وطاعة في المعروف، وأمر الأمة كلها بالاتحاد والاجتماع، والبعد عن الشقاق، وسيء الأخلاق، وما يدعو إلى الفرقة، وينجم عنه الشتات، ومن نعم الله علينا أننا في بلاد لولي أمرها بيعة في الأعناق، ومودة في القلوب، وسمع وطاعة بالمعروف، هذه المدنية الحقيقية التي جاء بها الشرع، جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وكما عني الإسلام بهذا فقد عني بخاصة المسلم في أهله، قال الله جل وعلا عن أوليائه المتقين في وصفهم:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:٦٧]، حسنة بين سيئتين، فالمؤمن يعلم أنه مؤتمن على مال الله الذي آتاه، فلا يقع منه الإقتار والبخل والشح؛ لأن ذلك سوء ظن برب العالمين جل جلاله، ولا يقع منه التبذير والإسراف، والمكابرة والخيلاء؛ لأن ذلك -والعياذ بالله- مدعاة للكبر الذي نهى عنه الشرع، بل من قرائنه ودلائله -خاصة إذا صاحب ذلك فقيراً يمنع، أو يتيماً يدفع- كان أعظم جرماً وأشد شناعة، فإن كان ذلك في باب الموائد، فعظم ما فيها وكثر حتى غلب على الظن أنه للمفاخرة والخيلاء، وصاحب ذلك مطعوم أو مشروب حرمه الله ازداد الأمر إثماً، فإن كان على رأسه الأغاني والمعازف وما حرم الله من نظائرها كان ذلك من مجلبات سخط الرب تبارك وتعالى، والمؤمن عليه أن يدرك أن الله جل وعلا وحده خير الرازقين، فليتق الله جل وعلا إن أنعم الله عليه في أن يستعمل نعمة الله جل وعلا فيما يرضيه، وإن كان ممن لم يكتب الله لهم أن يبسط الله لهم الرزق فليعلم أن ذلك لخير أراده الله به، علمه من علمه، وجهله من جهله؛ فخيرة الله لعبده خير من خيرة المرء لنفسه، والمؤمن بين سراء وضراء، فالسراء مطيتها الشكر، والضراء مطيتها الصبر.