أما بعد: عباد الله! فإن القدرة على ترك المنهيات، والقدرة على المسارعة في الخيرات، والمسابقة في الطاعات، لا تكون إلا لمن وفقه الله، وإن من أعظم أسباب التوفيق: تدبر كتاب الله جل وعلا، ففي تدبر القرآن، قرب من العلي الرحمن جل جلاله، فالله جل وعلا جعل في كتابه العظيم بصائر وهدى، ورحمة وشفاء لعباده المؤمنين، فيتدبر القرآن، ومعرفة مقاصده، جلاء القسوة من القلوب، قال الله جل وعلا:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:٢٤]، من تدبر القرآن حق التدبر عرف عظمة ربه، وعرف جلال قدرته، وكمال جماله، وعز جلاله سبحانه وتعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:٢٢]، من تدبر القرآن هانت الدنيا في عينيه، وترك الفانيات، وسابق في الخيرات، ونافس في الطاعات والباقيات الصالحات، قال ربنا وهو أصدق القائلين:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:٤٥ - ٤٦]، ثم قال جل ذكره يرشد عباده وأوليائه:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:٤٦].
ومن أعظم ما فسرت به الباقيات الصالحات أن يقول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من تدبر القرآن عرف عظمة الكتاب الذي يقرأ، والقرآن الذي يتلو، وعرف حال المؤمنين فسأل الله أن يسلك به سبيلهم، وحالهم في الآخرة، وطمع من الله أن يلحقه بهم، وعرف حال الكفار والفساق والفجار، فجأر إلى ربه أن يعيذه من هذا الطريق، وعلم مآلهم في الآخرة، فاشتد إلحاحه على ربه أن يجيره من النار، قال الله وهو أصدق القائلين:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}[فصلت:٤١ - ٤٣].
اللهم اجعلنا من أهل مغفرتك، وأعذنا اللهم من عقوبتك، من تدبر القرآن جعل هواه وراء ظهره، وقدم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم على كل مراد وهوى، ولم يبال بما ألقى وراء ظهره، فمن رضي الله عنه لم يضره سخط أحد، ومن سخط الله عليه لم ينفعه رضا أحد، اللهم إنا نسألك رضاك الذي لا سخط بعده.
ألا وصلوا وسلموا على من أنارت المدينة له في يوم هجرته، وأظلم منها كل شيء في يوم دفنه وإيداعه حفرته، الطاهر نسباً، والكامل أدباً، الزهري أماً، الهاشمي أباً، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا وصلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وارض عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عنا جميعاً بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك مرداً إليك غير مخزي ولا فاضح يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجعله اللهم رحمة على البلاد والعباد يا رب العالمين! اللهم ارفع الضر واللأواء على إخواننا المسلمين في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام! اللهم عليك بكل عدو للإسلام، أظهر أم أبطن يا رب العالمين! اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، أنت الله لا إله إلا أنت، الواحد الأحد الفرد الصمد، الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تصلي على محمد وآله، وأن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث السماء في أرضنا يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنين الآنة، وحنين الحانة يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وبارك لنا في سكنانا في مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم.
اللهم أمتنا على سنته، واحشرنا على ملته، عند حوضه وتحت رايته.