والتوكل -أيها المؤمنون- من أعظم أعمال القلوب، والناس فيه قديماً وحديثاً على ضربين: قوم ينظرون إلى المادة المحسوسة، فلا يعنون إلا بالأسباب، ويغفلون أن الأمور كلها تدبر في الملكوت الأعلى، فما قام سببه غلب على ظنهم أنه سيقع، وما لم يقم له سبب لم يغلب على ظنهم أنه سيقع، ونفضوا أيديهم من التعلق بكمال وجلال الواحد الأحد، وآخرون غلوا في هذا الباب غلواً مجانباً فأهملوا الأسباب كلها، ولم يكن لهم قدوة يتأسون بها، حتى إن بعضهم يقول: جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غياهبه الجنين ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو إمام المتوكلين- حفر الخندق يوم الأحزاب، وظهر في درعين في يوم أحد، على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم التوكل على ربه، لكن الأسباب إذا انقطعت، والأبواب إذا سدت، فإنه حري بالمؤمن -ولو من غير سبب- أن يحسن الظن والتعلق بالواحد الأحد، وكفى بالله وكيلاً، فإن الله قادر على أن يقدّم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، فربنا لا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
أيها المؤمنون! الخوف والرجاء جناحا طائر للمؤمن، والوسطية فيهما أن ينظر الإنسان إلى حال نفسه، فإن رأى في نفسه عملاً صالحاً قدمه فليغلب جانب الخوف؛ فإنه لا يدري قبل منه هذا العمل أم لم يقبل:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:٦٠]، فإذا غلب عليه الذنب واستزلّه الشيطان فوقعت منه الجريرة غلب حسن الظن بربه تبارك وتعالى، والرجاء في رحمته جل وعلا، وليعلم أن الله جل وعلا كما أنه تبارك وتعالى يسمع الأصوات وإن خفيت، فإنه جل وعلا يغفر الذنوب وإن عظمت، بل ليس لنا إلا الله، فإن أذنبنا فليس لنا إلا الله يغفر لنا ذنوبنا، وإن عملنا صالحاً ليس لنا إلا الله يثيبنا على ما قدّمنا، فإذا حانت ساعة الأجل، وشعر المرء بدنو الموت فليغلب حينها حسن الظن بربه تبارك وتعالى كما أوصى رسولنا صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! هذه بعض من الأمور الوسطية التي دل عليها الشرع، وليس المقام مقام تفصيل، لكن من رزق عقلاً وإنصافاً وعلماً وهداية قاس الأشباه على النظائر، وألحق الأول بالآخر، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
بلغني الله وإياكم من القول والعمل أنفعه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم