للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يضرب الله هذا المثل لأولئك المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، الذين آمنوا بالله ورسوله، أخذ هؤلاء الكفار يفتخرون عليهم بما عندهم من كثرة مال، وضياع، وتجارة، وأحساب، وأنساب، يصور هذا كله فى صورة رجلين، أحدهما له جنتان مثمرتان، وقد حوتا ألوان الثمار، وزخرتا بكل ألوان الجمال البادى فى المياه الجارية، والزروع، والنخيل، والأعناب، مما كان دافعا بصاحبها إلى الغرور، والتباهى على الآخر بكثرة ما لديه، وأنه لن يفنى أبدا، وأن حظه فى الآخرة، إن كانت هناك آخرة، سيكون أوفر ثراء، وأكثر رزقا، ظلم نفسه بهذا التفكير الأخرق، وبكفره، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا، ونسيانه للآخرة، وبذلك عرضها للعقاب يوم القيامة.

صورة مؤلمة لمن يخدع بالمظاهر البراقة التى قد تخدع، وتغرى بما لا يحمل فى طياته من القيم الرفيعة التى يعتز بها الإنسان، يخدع بمتاع زائل، وجاه عريض، وسلطان مزيف، ولذائذ رخيصة، وينسى تلك القيم التى تعلى من شأن الإنسان، وإن كان فقيرا مجردا من المال والسلطان، من جهاد النفس، والزهد فى الحياة، والعلم، والعمل، والبذل فى سبيل الدعوة.

عرف الرجل الظالم لنفسه هذه الحقائق بعد أن اتضحت الصورة أمام عينيه، وتكشفت الحقائق، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها، ويقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف: ٤٢].

أما النموذج الآخر، فقد استطاع أن يسبر أغوار الحقيقة، وأن يفهم بتوفيق الله إياه جوهر الأمور، وأن المظاهر خادعة، وأن وراء المظاهر منشئها وخالقها الأول، الجدير بالعبادة والطاعة، وأن هذه النعم هى: فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [المائدة: ٥٤]، ولا يحرم على النفس إلا ما كان ضارا بها، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: ٣٢].

أحلّ الطيبات، وحرّم الخبائث، ليست هذه الطيبات غاية فى ذاتها، ولكنها سبيل إلى غاية أجل وأعظم من تقوية للبدن، والجسم، فقوى الإيمان لا ينظر للمال والحطام إلا نظره للأمور المتنقلة، والأعراض الزائلة المتحولة، فلو منحها شكر، ولو حرمها صبر،

<<  <   >  >>