وأما العدنانيون، فقد كانوا على شريعة موروثة، وهي ما جاء به (إبراهيم وإسماعيل) عليهما السلام. إلا أن تطاول الدهور عليهم عدل بهم عما كانوا عليه. ولم يبق لهم إلا بنات أفكارهم من كل ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب والنسب والأخبار والأنواء والفراسة والكهانة والعرافة والطب والنجوم والحروب وبعض الطبيعيات والقيافة والعيافة والبيطرة وبعض الصناعات وغيرها مما أدركوه بفرط العناية والتجربة والذكاء.
[اللغة في صدر الإسلام]
كان القرآن له الفضل العظيم على اللغة لاضطرار كل مسلم إلى تفهمه والتأدب بآدابه. فزادت العناية بها. ووفرت الهمة في درس القرآن الكريم وحفظه. ومدة هذا الدور أربعون (٤٠) سنة.
[النثر والنظم فيه]
لما جاء القرآن الكريم، وظهر بهذا المظهر العجيب: من البلاغة الرائعة، والمعاني السامية، خفتت أصوات الخطباء، وسكتت ألسنة الشعراء، لما عراهم من الهيبة والروعة والدهشة. فصار الخطيب المصقع من يقتبس بعض آياته ليزيد كلامه رونقا، وخطابته بهجة.
أما الشعر فقد غفا غفوة لم تكن بالطويلة. لدهش الشعراء من أسلوب القرآن من جهة ولاشتغالهم بالقرآن وآداب الدين والجهاد من جهة ثانية.
[الكتابة فيه]
كانت الكتابة قبل الإسلام قليلة الانتشار، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتشرت للحاجة إليها في كتابة الوحي والرسائل التي ينفذها عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأمراء. وقد جاء في السيرة النبوية أنه أمر - عليه السلام - الأسرى (الذين كانوا عنده بعد غزوة بدر) أن يعلم من لم يكن له فداء منهم عشرة من صبيان المدينة الكتابة فانتشرت بعد ذلك الكتابة خصوصا أيام الخلفاء الراشدين.
[اللغة في العصر الأموي]
بعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم بسبب الفتوح فشا اللحن في اللغة خصوصا في (الدولة الأموية) . ولم يكن ذلك قاصرا على العامة والسوقة، بل فشا الأمر بين الخلفاء والأمراء، حتى خيف على اللغة والقرآن، فكان من ذلك وضع القوانين التي تحفظ اللغة، كما قدمنا.
[النثر والنظم فيه]
أثر القرآن في اللغة وأهلها فنسجوا على منواله، وضربوا على مثاله، في الدعوة للدين، والإرشاد للخير، فاصطبغت بصبغته، وسارت في وجهته. ولذلك ترى النثر في الصدر الأول أبعد من الحشو والكلفة، وأنزه عن اللغو والصنعة. وهو في عصر الأمويين أجمل وأكمل لتحديهم للقرآن، وتوسعهم في العمران، وسموهم في الخيال، ورقيهم في التصور، فاكتسبت الألفاظ مسحة البلاغة ورقة الحضارة. وحسبك أن تقرأ كتبهم وخطبهم فتعلم ذلك.
وأما الشعر فكان قدت غفا قبل هذا العصر غفوة أخمدت من جذوته، وأضعفت من قوته، لاشتغال القوم عنه بأمر الدين، فمن داع إليه ومن راد عليه. وما لبث أن أفاق، فجمل الآفاق، بما هز القلوب، ولذ المسامع. وقد ساعد على نهضته أن الدين أباحه والنبي سمعه واستنشده، والخلفاء استمالوا الشعراء ووصلوهم إلى إنشاده وأدنوهم منهم على قدر نصيبهم منه. فبلغ بذلك مبلغا راقيا ومكانا عاليا. أما مده هذا العصر فهي من بدء الخلافة الأموية إلى آخر عهدها، أي نحو مئة عام إلا قليلا. ويمتاز فيها الشعر ببلاغة المعنى ومتانة المبنى. وشعراء هذا العصر والعصر الذي قبله إما مخضرمون، وهم من أدركوا الجاهلية والإسلام، كحسان بن ثابت والخنساء وكعب بن زهير والحطيئة. وإما إسلاميون وهم من نشأوا في الإسلام، كجرير والفرزدق والأخطل وبشار وكلهم أرق ديباجة وأوفر بلاغة من شعراء الجاهلية.
[الخطابة والرسائل فيه]
لا نجد فرقا بين الخطابة في الجاهلية وبينها في صدر الإسلام إلا في رقة التعبير، ودقة التصوير، وقوة التأثير: بما اكتسبته من القرآن. فقد كان جهد الخطيب إن يترسم خطوة، ويحذو حذوه، وأن يرصع خطبته ببعض آية لتكون أحسن في الموقع، وأخف على المسمع.
ولما اتسع السلطان واستبحر العمران كثرت البواعث إلى الخطابة. وتشعبت أغراضها، فرقت رقيا كبيرا يعرفه كل ملم بخطب الخلفاء الراشدين وغيرهم كمعاوية وزياد والحجاج.