للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهل يخشى وعيد الناس إلا ... كبير السن أو ضرع صغير

ومثلي ... فاعلمي يا أم عمرو،

إذا ما اعتاده السفه النعور

يطير على مذكرة تسور، ... ومفرجة لها نسع وكور

فلما أن أنخت على مليك، ... مساكنه الخورنق والسدير

لينجزني مواعد كاذبات ... بطي صحيفة فيها غرور

فأوعدني، وأخلف ثم ظني، ... وبئس خليقة الملك الفجور

وكان السبب في القصيدة على ما حكى (المفضل بن سلمة) أن عمرو بن المنذر (هو عمرو بن الهند نفسه) كان يرشح أخاه (قابوس بن المنذر) ليملك بعده. فقدم عليه (المتلمس) و (طرفة) فجعلهما في صحابة (قابوس) وأمرهما بلزومه. وكان (قابوس) شابا يعجبه اللهو. وكان يركب يوما في الصيد، فيركض يتصيد، وهما معه يركضان، حتى يرجعا عشية وقد تعبا. فيكون (قابوس) من الغد في الشراب فيقفان بباب سرادقه إلى العشي. فكان (قابوس) يوما على الشراب، فوقفا ببابه النهار كله ولم يصلا إليه. فضجر (طرفة) ، فقال هذه القصيدة.

وقال (يعقوب بن السكيت) و (الأعلم الشنتمري) في شرحهما لديوان طرفة: "أن عمرو بن هند المذكور كان شريرا. وكان له يوم بؤس ويوم نعمة. فيوم يركب في صيده يقتل من يلقى. ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له. فكان هذا دهره كله. فهجاه طرفة".

والقصيدة المذكورة هي هجاء لعمرو وأخيه قابوس.

قالوا: فلما سمع القصيدة (عمرو بن هند) سكت على ما وقر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه، فأضرب عنه. وبلغ ذلك (طرفة) فخاف على نفسه. غير أنه قد أمن لما علم أنه رضي عنه وغفر له جريرته.

وكان (عمرو بن هند) بطاشا جبارا. وكان لا يبتسم ولا يضحك. وقد ملك ثلاثا وخمسين سنة. وكانت العرب تهابه هيبة شديدة. وفيه يقول (الدهاب العجلي) :

أبى القلب أن يهوى السدير وأهله، ... وإن قيل: عيش بالسدير غرير

لقد أنذروا الحي الذي نزلوا به، ... وإني لمن لن يأته لنذير

به البق، والحمى، وأسد خفية، ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور

وسيأتي ذكر قتل (عمرو بن هند) وموته عند الكلام على ترجمة (عمرو بن كلثوم) .

[قتل طرفة وموته]

وكان (المتلمس) خال (طرفة) قد قال قصيدة يهجو بها (عمرو بن هند) أيضا. وكان في نفس (عمرو) من ذلك موجدة عليه يكتمها عنه. فاتفق أن قدم (طرفة) و (المتلمس) على (عمرو بن هند) يتعرضان لفضله ومعروفه. فكتب لهما كتابا إلى عامله على (البحرين وهجر) وكان عليهما (المعكبر) . وقيل بل (ربيعة بن حارث العبدي) . وقال لهما: "انطلقا فخذا جوائزكما منه". فخرجا.

قال المتلمس: فلما هبطنا بذي الركاب من (النجف) إذا أنا بشيخ على يساري يتبرز ومعه كسرة يأكلها وهو يقصع القمل. فقلت: "تالله ما رأيت شيخا أحمق وأضعف وأقل عقلا". قال: "وما تنكر علي من حمقي؟ ". قلت: "تتبرز وتأكل وتقصع القمل". قال: "أدخل طيبا، وأخرج خبيثا، وأقتل عدوا. وأحمق مني الذي يحمل حتفه بيده لا يدري ما فيه". قال المتلمس: "فنبهني، وكأنما كنت نائما".

ثم إن المتلمس قال لطرفة: "إنك غلام حديث السن، والملك من عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمن أن يكون قد أمر فينا بشر. فهلم، فلننظر في كتبنا هذه، فإن يكن قد أمر لنا بخير مضينا، وإن تكن الأخرى لم نهلك أنفسنا". فأبى (طرفة) أن يفك خاتم الملك. فحرضه (المتلمس) على ذلك فأبى.

وعدل (المتلمس) إلى غلام من غلمان الحيرة فأعطاه الصحيفة فقرأها، ولم يكد يصل إلى ما أمر به في (المتلمس) حتى جاء آخر فأشرف على الصحيفة لا يدري من هو (المتلمس) ، فقرأها فقال: "ثكلت المتلمس أمه". فانتزع (المتلمس) الصحيفة من يد الغلام، واكتفى بذلك من قوله. وكان في الصحيفة: "باسمك اللهم. من (عمرو بن هند) إلى (المعكبر) : إذا جاءك كتابي هذا مع (المتلمس) فاقطع يده ورجله وادفنه حيا".

ثم إنه اتبع (طرفة) فلم يدركه. وقد قيل: بل أدركه وقال له: "تعلم إن ما في صحيفتك لمثل ما في صحيفتي". فقال طرفة: "إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي ولا ليغرني ولا ليقدم علي". فلما غلب المتلمس على أمره ألقى الصحيفة في نهر الحيرة، ثم خرج هاربا إلى الشام. وفي ذلك قوله:

وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل

<<  <   >  >>