ثم بعد ذلك ينبغي له أن يرتاض على الكتابة والنظم، ويعود نفسه الإنشاء والكتابة والتعبير عن كل ما يدور في خلده من المعاني والأغراض، ويروض فكره عل استنباط المعاني والجولان في حدائق الموضوعات السامية، ويدع لسانه ينطق بما في نفسه بلفظ فصيح، من غير حياء ولا وجل، لتتمكن في نفسه ملكة الخطابة. وكل ذلك يشترط فيه البداءة بالمعاني الموجزة، والأغراض القريبة. حتى إذا أتقن تصورها وإنشاءها على أسلي اللسان والقلم، انتقل إلى غيرها. وهكذا حتى تصير ملكة الاختراع وإظهارها على اللسان والقلم خلقا فيه.
[تاريخ أدب اللغة]
تاريخ أدب اللغة هو علم يبحث فيه عن أحوال اللغة وأطوارها وما دخلها من وجوه التهذيب والتحسين أو التأخير.
وموضوعه الكلام من حيث الحسن والإجادة والطبقة، والشعراء والخطباء، وما نمقوه من بنات الأفكار ومبتكرات الخيال.
وفائدته الوقوف على تواريخ الألفاظ وما اعتورها من تغيير المعنى بالاصطلاح والمجاز والكناية وغيرها، واكتساب ملكة النقد بالوقوف على ثمرات الأفكار من نوابغ الرجال، ومعرفة المآخذ الصحيحة ممن يوثق بعربيتهم، وإرجاع الأساليب إلى العصور الراقية بالأدب. حتى تحيا اللغة بالتحدي والمماثلة.
[تهذيب اللغة]
إن اللغة قد ترقت مع الناموس الطبيعي فدخلها التهذيب، ودارت عليها دائرة الصقل والتعريب، شأن كل لغة درجت من مهدها. إلا إنها لم تصل إلى ما هي عليه الآن وقبل الآن من جزالة التركيب وسلاسة الأساليب إلا بعد أن تناولتها أيدي التهذيب غير مرة.
[التهذيب الأول]
وذلك قبل (إسماعيل) والإسلام. فقد كان للعرب العاربة عظيم الفضل على اللغة العربية في نشأتها، لأنهم كانوا يأخذون ألفاظ اللغات الأخرى بعد أن يعرضوها على محك التعريب، فيصقلها، ويعطيها المسحة العربية، حتى تصير بهم أجدر.
[التهذيب الثاني]
وذلك أنه لما نزل (إسماعيل) عليه السلام أرض (الحجاز) ، وتزوج من (جرهم الثانية) ، ونشأ منهم (العرب المستعربة) ، دخل العربية كثير من وجوه التحسين بواسطته وواسطة أولاده، حتى وصلوا بالعربية إلى أوج الرقي. ولكن الدهر لم يدعهم صاعدين بها، بل جر عليهم حوادثه، وقلب لهم ظهر المجن، حتى باتت كل قبيلة تأكل لحم أختها كرها وعدوانا، إلى أن تشتت الكثير منهم. فأصابها من الضعف ما أصابها.
[التهذيب الثالث - أو - أسواق العرب]
وهو تهذيب قريش فقد كانت العرب ترد عليهم في مواسم الحج. وتقيم عندهم ثلاثة أيام في (سوق ذي المجاز) ، وسبعة في (سوق مجنة) ، وثلاثين في (سوق عكاظ) ، وعشرين يقضون فيها مناسك الحج.
وفي أثناء ذلك كانت العرب تتناشد الأشعار أمام قضاة الأدب، وتترنم بالخطب. حتى اتحدت اللغة. وكانت لغة (قريش) هي المهيمنة عليهم، السائرة على ألسنتهم. وبها نزل القرآن الكريم.
إلا أن الأسواق الأخرى غير (عكاظ) كانت ابتدائية خاصة لا يحضرها غير فصحاء قبيلتها. ولكن (عكاظ) هذه كانت مؤتمرا عاما تجتمع فيها قبائل العرب، فيتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويتعارفون فيها. وكان الغرض منها اجتماع فحول الشعراء والخطباء والبلغاء لإبداء نتائج أفكارهم، وإظهار محاسن فصاحتهم وبلاغتهم.
وكان يجتمع فيها سادات العرب وملوكهم ورؤساء قبائلهم. ومثل (عكاظ) في ذلك (سوق ذي المجاز) .
وكانت (عكاظ) تقام بين الأول والعشرين من (ذي القعدة) في كل سنة. ولم تجتمع إلا بعد (عام الفيل) بخمس عشرة سنة. وقد هدمت أركانها أيدي الخوارج سنة تسع وعشرين بعد المئة من ذلك العام.
[التهذيب الرابع]
وذلك بعد أن ظهر الإسلام، فقد غير القرآن بعض أساليب الكلام وهذبها ورقاها، فاكتسب بذلك رونقا وبهاء. وسيأتي الكلام على ذلك.
[اللغة في العصر الجاهلي]
لما رجعت اللغة من مهدها أخذت تنمو وتنتشر تبعا لنواميس الكون. وأهلها -وإن كانوا أميين- قد ساعدوها على النماء والحياة بما جبلوا عليه من فصيح المنطق وبليغ القول، وما أدخلوا فيها من أسماء النباتات والحيوانات والاصطلاحات من لغات غيرهم.