للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولما حضرت (لبيدا) الوفاة قال مخاطبا لابنتيه:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر؟

إذا حان يوما أن يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها، ولا تحلقا شعر

وقولا: هو المرء الذي ليس جاره ... مضاعا، ولا خان الصديق، ولا غدر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

فكانتا تذهبان إلى قبره كل يوم، وتترحمان عليه، وتبكيان من غير ندب ولا صياح ولا لطم، ثم تأتيان نادي (بني كلاب) فتذكران مآثره: ثم تنصرفان. فأقامتا على ذلك إلى أن تم الحول.

وقال لابن أخيه لما حضرته الوفاة (ولم يكن له ولد ذكر) : يا بني، إن أباك لم يمت ولكنه فني. فإذا قبض أبوك فأقبله القبلة، وسجه بثوبه، ولا تصرخن عليه صارخة. وأنظر جفنتي اللتين كنت اصنعهما فاصنهما، ثم احملهما إلى المسجد. فإذا سلم الإمام فقدمهما إليهم. فإذا طعموا فقل لهم: فليحضروا جنازة أخيهم".

ففعل ابن أخيه ما أمره (لبيد) به.

وكانت وفاته سنة (٦٠) للهجرة. وقال (ابن عفير) : "مات (لبيد) سنة إحدى وأربعين من الهجرة يوم دخل معاوية (الكوفة) ونزل "النخيلة". وقد قضى من عمره تسعين سنة في الجاهلية وسائرها في الإسلام. رحمه الله".

[الكلام على شعره]

كان رحمه الله - من فحول الشعراء المخضرمين. وقد شهد له النابغة بأنه أشعر العرب، لأنه كان يغوص على المعنى الغريب والحكمة البليغة.

وذلك أن "النابغة الذبياني" نظر إليه - وهو صبي - مع أعمامه على باب "النعمان بن المنذر"، فسأل عنه، فنسب إليه. فقال له: "يا غلام، إن عينيك لعيني شاعر. أفتقرض من الشعر شيئا؟ " قال: "نعم". قال: "فأنشدني". فأنشده قوله:

ألم تلمم على الدمن الخوالي ... لسلمى، بالمذائب فالقفال؟

فقال له النابغة: "أنت أشعر بني عامر. زدني". فأنشده:

طلل لخولة بالرسيس قديم، ... بمعاقل فالأنعمين، وشوم

فقال: "أنت أشعر هوازن. زدني". فأنشده معلقته:

عفت الديار، محلها فمقامها ... بمنى. تأبد غولها فرجامها

روي أن الفرزدق مر بمسجد "بني أقيصر" بالكوفة وعليه رجل ينشد:

وجلا السيول عن الطلول، كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها

فسجد. فقيل له: "ما هذا يا أبا فراس؟ ". فقال: "أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر".

وبالجملة فمحل لبيد في الشعر مشهور. وقال من قدمه على غيره: "إنه أقل الشعراء لغوا في شعره، وحكمه في الشعر كثيرة".

ومن شعره قوله من قصيدة:

إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل

أحمد الله، ولا ند له، ... بيديه الخير، ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل

وفي هذه القصيدة يقول - وهو من خير ما قال:

واكذب النفس إذا حدثتها: ... إن صدق النفس يزري بالأمل

وقال مادحا:

وبنو الريان لا يأتون (لا) ... وعلى ألسنتهم خفت (نعم)

زينت أحلامهم أحسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم

وكان "المعتصم" يعجب بشعر "لبيد". فقال: من منكم يروي قوله: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع. فقال بعض الجلساء: "أنا" فقال: "أنشدنيها". فأنشد:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

وقد كنت في أكناف دار مضنة، ... ففارقني جار بأربة نافع

فبكى (المعتصم) حتى جرت دموعه. وترحم على المأمون. وقال: "هكذا كان، رحمة الله عليه". ثم اندفع وهو ينشد باقيها، ويقول:

فلا جزع إن فرق الدهر بيننا، ... فكل امرئ يوما له الدهر فاجع

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه: ... يحور رمادا بعد ما هو ساطع

وما المرء إلا مضمرات من التقى ... وما المال والأهلون إلا ودائع

وما الناس إلا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبني، وآخر رافع

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه، ... ومنهم شقي بالمعيشة قانع

أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنو عليها الأصابع

أخبر أخبار القرون التي مضت، ... أدب كأني

كلما قمت

راكع

فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين، والنصل قاطع

<<  <   >  >>