للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسأل (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - أحد أولاد (زهير) : "ما فعلت الحلل التي كساها (هرم) أباك؟ "، قال: "قد أبلاها الدهر". قال عمر: ولكن الحلل التي كساها أبوك (هرما) لم يبلها الدهر".

ويروى عنه أيضا أنه قال لبعض ولد (هرم) : "أنشدني بعض مدح (زهير) أباك، فأنشده". فقال: "إنه كان ليحسن فيكم المدح". قال: "ونحن والله كنا لنحسن له العطية". قال: "قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم".

وقيل: لم يترك (زهير) من آل (أبي حارثة) وهوجد (هرم) غنيا ولا فقيرا إلا مدحه.

[موت زهير]

كان (زهير) قد رأى في منامه في آخر عمره أن آتيا أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قص رؤياه على ولده (كعب) . ثم قال: "إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي، فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه". هم توفي قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام بسنة.

فلما بعث الرسول - عليه الصلاة والسلام - خرج إليه ولده (كعب) بقصيدته (بانت سعاد) المشهورة، وأسلم.

وروي أيضا أنه رأى في منامه أن سببا تدلى من السماء إلى الأرض كأن الناس يمسكونه. وكلما أراد أن يمسكه تقلص عنه. فأوله بنبي آخر الزمان، فإنه واسطة بين الله وبين الناس، وإن مدته لا تصل إلى زمن مبعثه. فأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره.

وكانت وفاته سنة (٦٣١) لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام.

ولما مات (زهير) قالت أخته (خنساء) ترثيه:

وما يغني توقي المرء شيئا، ... وعلا عقد التميم ولا الغضار

إذا لاقى منيته فأمسى ... يساق به، وقد حق الحذار

ولاقاه من الأيام يوم، ... كما من قبل لم يخلد قدار

[الكلام على شعره]

هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء - كما قدمنا - وكما أن امرأ القيس امتاز بتلطيف المعاني، وابتداع الأساليب، واستنباط الأفكار، فقد امتاز (زهير) بما نظمه من منثور الحكمة البالغة، وكثرة الأمثال وسني المدح، وتجنب وحشي الكلام، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من اللفظ.

وكان لزهير أخلاق عالية، ونفس كبيرة، مع سعة صدر وحلم وورع. فرفع القوم منزلته وجعلوه سيدا. وكثر ماله واتسعت ثروته. وكان مع ذلك عريقا في الشعر.

قال ابن الأعرابي: "لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعرا، وخاله شاعرا، وأخته (سلمى) شاعرة، وأخته (الخنساء) شاعرة، وابناه (كعب) و (بجير) شاعرين، وابن ابنه (المضرب بن كعب) شاعرا. ولهذا قال الأخطل: "أشعر الناس قبيلة (بنو قيس) ، وأشعر الناس بيتا آل (أبي سلمى) ، وأشعر الناس رجلا ف رجل في قميصي". يعني نفسه.

وكان لشعره تأثير كثير في نفوس العرب. وهو واسطة عقد الفحول من شعراء الطبقة الأولى.

وكان (عمر بن الخطاب) جالسا مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل (ابن عباس) فقال عمر: "قد جاءكم أعلم الناس بالشعر". فلما جلس قال: "يا ابن عباس، من أشعر الناس؟ ". قال: "زهير بن أبي سلمى"، قال: "فهل تنشد شيئا تستدل به على ما قلت؟ "، قال: نعم، امتدح قوما من (غطفان) يقال لهم (بنو سنان) فقال:

لو كان يقعد فوق الشمس من أحد ... قوم، لأولهم يوما إذا قعدوا

محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا

ومن محاسن شعر زهير قوله:

ولا تكثر على ذي الضغن عتبا، ... ولا ذكر التجرم للذنوب

ولا تسأله عما سوف يبدي، ... ولا عن عيبه لك في المغيب

متى تك في صديق أو عدو ... تخبرك الوجوه عن القلوب

قال ابن الأعرابي: "أم أوفى التي ذكرها (زهير) في شعره كانت امرأته فولدت منه أولادا ماتوا، ثم تزوج بعد ذلك امرأة أخرى وهي أم ابنيه (كعب) و (بجير) ، فغارت من ذلك وآذته، فطلقها، ثم ندم، فقال فيها:

لعمرك (والخطوب مغيرات، ... وفي طول المعاشرة التقالي)

لقد باليت مظعن أم أوفى، ... ولكن أم أوفى ما تبالي

<<  <   >  >>