للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هو (زهير بن أبي سلمى) ، واسم أبي سلمى (ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن) ، وينتهي نسبه إلى (مضر بن نزار بن معد ابن عدنان) .

وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وإنما اختلفوا في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه. وأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم (امرؤ القيس) و (زهير) و (النابغة الذبياني) .

حدث (عكرمة بن جرير) قال: "قلت لأبي: يا أبتي، من أشعر الناس؟ ". قال: "أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ "، قلت: "ما أردت إلا الإسلام، فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها"، قال: "زهير أشعر أهلها". قلت: "فالإسلام؟ "، قال: "الفرزدق نبعة الشعر". قلت: "فالأخطل"، قال: "يجيد مدح الملوك، ويصيب صفة الخمر". قلت: "ما تركت لنفسك؟ "، قال: "نحرت الشعر نحرا".

وسئل (العباس بن الأحنف بن قيس) عن أشعر الشعراء فقال "زهير". قيل: "وكيف؟ "، قال: "ألقى عن المادحين فضول الكلام". قيل: "مثل ماذا؟ " قال مثل قوله:

فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل

قال (ابن عباس) : خرجت مع (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنهما - في أول غزاة غزاها. فقال لي: "أنشدني لشاعر الشعراء" قلت: "ومن هو يا أمير المؤمنين؟ " قال: "ابن أبي سلمى" قلت: وبم صار كذلك؟، قال: "لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح أحدا إلا بما فيه. أليس هو الذي يقول:

إذا ابتدرت قيس بن غيلان غاية ... من المجد (من يسبق إليها يسود)

سبقت إليها كل طلق، مبرز، ... سبوق إلى الغايات، غير مزند

فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد

أنشدني. فأنشدته حتى برق الفجر. فقال: "حسبك الآن. فاقرأ القرآن". قلت: "وما أقرأ؟ قال: "اقرأ الواقعة". فقرأتها، ونزل فأذن وصلى.

وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى (زهير) وله مئة سنة، فقال: "اللهم أعذني من شيطانه" فما لاك بعدها بيتا حتى مات.

وكان (زهير) سيدا كثير المال حليما معروفا بالورع.

وكان من حديث (زهير) وأهل بيته أنهم كانوا من (مزينة) إحدى قبائل مضر. وكان يقيم هو وأبوه وولده في منازل بني (عبد الله بن غطفان) بالحاجز من (نجد) . وأول من نزل هناك منهم أبوه (أبو سلمى) لأنه تزوج امرأة من بني (فهر بن مرة من ذبيان بن غطفان) فولدت له (زهيرا) و (أوسا) وتزوج (زهير) امرأة من (سحيم بن مرة) ولذلك كان يذكر في شعره بني (مرة وغطفان) ويمدحهم.

وكان من أمر أبيه (أبي سلمى) أنه خرج وخاله (أسعد بن الغرير ابن مرة الذبياني) وابنه (كعب بن أسعد) في ناس من (بن مرة) يغيرون على (طيء) . فأصابوا نعما كثيرا وأموالا، فرجعوا حتى انتهوا إلى أرضهم. فقال (أبو سلمى) لخاله (أسعد) وابن خاله (كعب) : افردا لي سهمي، فأبيا عليه ومنعاه حقه، فكف عنهما. حتى إذا كان الليل أتى أمه، فقال لها: "والذي أحلف به لتقومن إلى بعير من هذه الإبل فلتقعدن عليه، أو لأضربن بسيفي تحت قرطيك". فقامت أمه إلى بعير منها فانتقت سنامه. وساق بها (أبو سلمى) حتى انتهى قومه (مزينة) . فلبث فيهم حينا. ثم أقبل (بمزينة) مغيرا على بني (ذبيان) حتى إذا (مزينة) أسهلت وخلفت بلادها ونظروا إلى أرض (غطفان) تطايروا عنه راجعين وتركوه وحده. وأقبل حين رأى ذلك من (مزينة) حتى دخل في أخواله (بني مرة) فلم يزل هو وولده في (بني عبد الله بن غطفان) .

نشأ (زهير) فيهم، وهناك قال قصيدته المعلقة يذكر فيها قتل (ورد بن حابس) العبسي (هرم بن ضمضم) المري، ويمدح فيها (هرم ابن سنان بن أبي حارثة) و (الحارث بن عوف) و (سعد بن ذبيان) المريين لأنهما احتملا ديته من مالهما.

وكان (زهير) بعد ذلك يكثر من مدح (هرم) وأبيه (سنان) وله فيهما قصائد غر. فحلف (هرم) أن لا يمدحه إلا أعطاه "ولا يسأله إلى أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا. فاستحيا (زهير) من كثرة بذله له على كل حال، وجعل يتجنب مقابلته.

وكان إذا رآه في محفل قال: "عموا صباحا غير (هرم) ، وخيركم استثنيت) . وسيأتي ذكر طرف من مدائحه فيه عند الكلام على شعره.

<<  <   >  >>