للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبر بميثاق، وأوفى، وأصبرا

ولو شاء كان الغزو من آل حمير، ... ولكنه عمدا إلى الروم أنفرا

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها، ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا

إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان، بدلت آخرا

كذلك جدي ما أصاحب صاحبا ... من الناس، إلا خانني وتغيرا

وقال في آخرها:

ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا ... نقادا، وحتى نحسب الجون أشقرا

فلما كان عند قيصر قبله وأكرمه، وصارت له عنده منزلة.

قيل: وقد رأى امرؤ القيس بنت قيصر فشغفها وشغفته حبا، دون أن يعلم أبوها بالأمر.

[رجوعه من عند قيصر]

ثم إن (قيصر) ضم إليه جيشا كثيفا، وفيه جماعة من أبناء الملوك فاندس رجل من بني أسد يقال له (الطماح) (وكان امرؤ القيس قد قتل أخا له) . فجاء (الطماح) هذا إلى بلاد الروم مستخفيا فوشى به إلى قيصر، بعد أن فصل بالجيش. فقال له: "إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك وتراسله، وهو قائل فيها في ذلك أشعارا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك". فلما سمع ذلك (قيصر) بعث إلى (امرئ القيس) بحلة مسمومة منسوجة بالذهب. وقال له: "قد أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها، تكرمة لك. فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة. واكتب إلى بخبرك من منزل منز. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد بها سروره. وكان يوما صائفا شديد الحر، فأسرع فيه السم، وسقط جلده فلذلك سمي (ذا القروح) . وفي حالته هذه يقول:

وبدلت قرحا داميا بعد صحة ... فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا

لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا

ومن هذه القصيدة قوله:

فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل، إلا أن أكب فأنعسا

فيا رب مكروب كررت وراءه، ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا

وما خلت تبريح الحياة كما أرى، ... تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا

فلو أنها نفس تموت جميعة، ... ولكنها نفس تساقط أنفسا

فيا رب مكروب كررت وراءه، ... وعان فككت الغل عنه ففداني

وفي هذه القصيدة يقول:

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان

وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان

وغيث كألوان الفنا قد هبطته، ... تعاور فيه كل أوطف حنان

على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري، غير كز ولا واني

يدافع أعطاف المطايا بركنه ... كما مال غصن ناعم بين أغصان

ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو، ذي زهاء وأركان

مطوت بهم حتى تكل مطيهم، ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

[موت امرئ القيس]

فلما صار في بلدة من بلاد الروم تدعى (أنقرة) احتضر بها. فقال: "رب خطبة محبرة، وطعنة مسحنفرة، وجفنة مثعنجرة، تبقى غدا بأنقرة".

قالوا: ورأى امرؤ القيس قبر امرأة من بنات الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له (عسيب) . فسأل عنها فأخبر بقصتها. فقال:

أجارتنا، إن الخطوب تنوب، ... وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا، إنا غريبان ههنا، ... وكل غريب للغريب نسيب

وهذا آخر شيء تكلم به. ثم مات، فدفن إلى جنب المرأة. فقبره هناك.

مما يؤثر عنه قبل وفاته بسفح جبل (عسيب) قوله:

ألا أبلغ بني حجر بن عمرو، ... وأبلغ ذل الحي الحديدا

بأني قد هلكت بأرض قوم، ... سحيقا من دياركم بعيدا

[الكلام على شعره]

كان امرؤ القيس فصيح الألفاظ، جيد السبك، كثير المعاني، مقدما على شعراء الجاهلية. وهو أول من سبق إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء. وذلك كتلطيفه المعاني، ورقة النسب، وقرب المأخذ، واستيقاف الأطلال، ووصف النساء بالظباء والمها، وتشبيه الخيل بالعقبان، والتفريق بين النسيب وما سواه في القصيدة، وإحكام التشبيه، وتجويد الاستعارة. وقد شهد له بذلك كثير من الشعراء كلبيد وغيره.

وروى (الجمحي) أن سائلا سأل (الفرزدق) : من أشعر الناس؟. قال: ذو القروح حيث يقول:

وقاهم جدهم ببني أبيهم، ... وبالأشقين ما كان العقاب

<<  <   >  >>