للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومر (لبيد) بالكوفة في بني (نهد) فسألوه: من أشعر الناس؟. قال: "الملك الضليل" (يعني امرأ القيس) . قيل: ثم من؟. قال: "الغلام القتيل" (يعني طرفة بن العبد) . قيل "ثم من؟ ". قال: "الشيخ أبو عقيل الجليل" (يعني نفسه) .

وكان (امرؤ القيس) مقلا من الشعر، كثير المعاني والتصرف. ولا يصح له إلا عشرون شعرا ونيف بين طويل وقطعة.

وسأل العباس بن عبد المطلب عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - عن الشعراء. فقال "امرؤ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر".

وامرؤ القيس يماني النسب، نزاري الدار والمنشأ. وفضله (علي) - رضي الله عنه - بأن قال: "رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وإنه لم يقل رغبة أو رهبة".

وكان كثير الإجادة في وصف الفرس حتى لا تكاد تجد قصيدة من قصائده تخلو من وصفه. ومن أحسن وصفه به قوله:

وقد أغتدي، والطير في وكناتها ... بمنجرد، قيد الأوابد هيكل

مكر، مفر، مقبل مدبر معا، ... كجلمود صخر حطه السيل من عل

له أيطلا ظبي، وساقا نعامة، ... وإرخاء سرحان، وتقريب تنقل

فقوله: "قيد الأوابد" في البيت الأول هو من الألفاظ الشريفة البالغة نهاية الحسن. وعنى بذلك أنه إذا أرسل فرسه على الصيد صار قيدا له وكان الصيد بحالة المقيد، وذلك من شدة عدو هذا الفرس. وقد اقتدى به الناس واتبعه الشعراء، فقيل: "قيد النواظر" و"قيد الألحاظ" و"قيد الكلام" و"قيد الحديث" و"قيد الرهان". وذكر الأصمعي وأبو عبيدة أنه أحسن في هذه اللفظة، وأنه اتبع فيها فلم يلحق. وذكرها أهل البيان في باب (التشبيه البليغ) . وجعلها بعضهم من باب (الرداف) وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ تابع له وردف. وذلك هو الكناية. قالوا: ومنه قوله أيضا:

ويضحي فتيت المسك فوق فراشها، ... نؤوم الضحى، لم تنطق عن تفضل

أراد بقوله: "نؤوم الضحى" أنها مترفهة، عندها من يقضي لها حاجات بيتها: فلا تحتاج إلى النهوض ضحى. ومنه قول الآخر:

بعيدة مهوى القرط. إما لنوفل ... أبوها، وإما عبد شمس وهاشم

أراد أن يصف طول جيدها فأتى بردفه.

وقوله "له أيطلا ظبي" في البيت الثالث هو من التشبيه البديع، وذلك أنه شبه أربعة أشياء بأربعة أشياء، أحسن فيها ما شاء.

وقد أمتاز امرؤ القيس عن شعراء الجاهلية - إلا أقلهم - برقة الألفاظ وحسن التشبيه ورقته. قال (بشار بن برد) : لو أزل أجهد الخيال منذ سمعت قوله:

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ...

لدى وكرها

العناب والحشف البالي

حتى قلت:

كأن مثار النقع ... فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وفي بيتي امرئ القيس وبشار تشبيه شيئين بشيئين. غير أن امرأ القيس قد سبق إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى، دون صحة التقسيم والتفصيل.

ومما استحسن من تشبيهه قوله:

كأني غداة البين حين ترحلوا ...

لدى سمرات الحي

ناقف حنظل

وقوله:

كأن عيون الوحش ... حول خبائنا

وأرحلنا

الجزع الذي لم يثقب

وقوله في وصف الليل:

وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه، ... وأردف أعجازا، وناء بكلكل:

ألا أيها الليل الطويل، ألا انجل ... بصبح. وما الأصباح منك بأمثل

وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:

كليني لهم ... يا أميمة

ناصب

وليل أقاسيه، بطيء الكواكب

وصدر أراح الليل عازب همه، ... بضاعف فيه الحزن من كل جانب

تقاعس، حتى قلت: ليس بمنقض، ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب

وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس واستحسنت استعارتها: فقد جعل لليل صدرا يثقل تنحية، ويبطئ تقضيه. وجعل له أردافا كثيرة. وجعل له صلبا يمتد ويتطاول. ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة. ورأوا أن الألفاظ جميلة.

<<  <   >  >>