وقد طرق كثيرا من المعاني فأجاد، حتى عد من فحول الطبقة الأولى. فأحسن مطالع الجاهليين مطالعه، وأجود التشابيه تشبيهه، وأحسن الغزل غزله. ومما بلغ حد النهاية في الرقة واللطف قوله:
أفاطم، مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي، ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وله أبيات كثيرة جرت مجرى المثل. منها قوله:
وقد طوفت في الآفاق، حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقوله:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
وكان واسع الخيال، يجيد الوصف يدلك على ذلك قوله:
ديمة هطلاء ... فيها وطف
طبق الأرض
تحرى وتدر
وترى الضب خفيفا ماهرا، ... ثانيا برثنه ما ينعفر
وترى الشجراء في ريقها ... كرؤوس قطعت، فيها الخمر
ساعة، ثم انتحاها وابل، ... ساقط الأكناف، واه، منهمر
راح تمريه الصبا. ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منفجر
ثج، حتى ضاق عن آذيه ... عرض خيم فخفاف فيسر
قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الاطلين محبوك ممر
ومن ذلك وصفه زيارة حبيبته خلسة بحيث لا يشعر به أحد.
قال:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حبات الماء، حالا على حال
وله من أمثال ما قدمناه كثير من الشعر. وسترى كثيرا منه في معلقته. وإنا نختم هذا الفصل بشيء من قصيدة له أبدع فيها ما شاءت شاعريته. قال:
أحار بن عمرو، كأني خمر، ... ويعدو على المرء ما يأتمر
فلا ... وأبيك ابنة المامري
لا يدعي القوم أني أفر
تميم بن مر وأشياعها، ... وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض، واليوم قر
ومنها:
رمتني بسهم أصاب الفؤاد ... غداة الرحيل، فلم أنتصر
فأسبل دمعي كفض الجمان ... أو الدر رقراقه المنحدر
فبت أكابد ليل التمام ...
القلب من خشية مقشعر
فلما دنوت تسديتها، ... فثوبا لبست، وثوبا أجر
ولم يرنا كاليء كاشح، ... ولم يفش منا لدى البيت سر
ومنها في وصف فرسه:
لها غدر كقرون النساء ... ركبن في يوم ريح وصر
لها جبهة كسراة المجن ...
حذقه الصانع المقتدر
لها منخر كوجار السباع، ... فمنه تريح إذا تنبهر
إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر، مغموسة في الغدر
وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة، ليس فيها أثر
وإن أعرضت قل سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر
لها وثبات كصوب السحاب: ... فواد خطيط، وواد مطر
[معلقته وسبب نظمها]
أما معلقته فهي أحسن شعره بلا ريب. وقد ذكروا أن سبب نظمها واقعته مع معشوقته بنت عمة (عنيزة) بنت (شرحبيل) . وكان قد منع من الاجتماع بها على عادة العرب من عدم تمكين العاشق من الاجتماع بمن يعشق وعدم تزويجه بها. وقد كان (امرؤ القيس) يتحين الفرص لملاقاتها. وقد اتفق أن لاحت له فرصة. وذلك أن الحي قد ظعنوا (وكان من عاداتهم إذا ظعنوا أن الرجال تمشي أول ثم النساء) فتخلف (امرؤ القيس) عن الرجال، وتربص يترقب النساء. فلما ظعن مشى خلفهن بحيث لا يشعرن به. وكان في الطريق غدير، وهو غدير (دارة جلجل) في منازل (كندة) بنجد. فسبقهن إليه. فلما وصلن إلى الغدير نزعن ثيابهن ونزلن إلى الماء - وكان فيهن عنيزة - فبرز (امرؤ القيس) من مكمنه، وجمع ثيابهن وجلس عليها. فلما شعرن بمكيدته تلطفن في المقال، وضرعن إليه أن يعطيهن الثياب، فآلى أن لا يعطي واحدة منهن ثوبها حتى تخرج إليه عارية فتأخذه. فخرجن إليه إلا (عنيزة) معشوقته. وأقسمت عليه أن يعدل عن شرطة، فأبى. وما زال بها حتى خرجت. فدفع إليها ثوبها فلبسته.
ثم اجتمع عليه النساء وأنبنه على فعلته الشنعاء. ثم عقر لهن ناقته وأطعمهن من لحمها حتى شبعن. وكان معه ركوة خمر فسقاهن.
ثم حمل أمتعته وكور ناقته على رواحلهن. وفي ذلك يقول في معلقته:
ألا رب يوم لك منهن صالح، ... ولا سيما يوم بدارة جلجل