لقد كان للخط نصيب من الرقي في هذا العصر الذهبي، إذ اخترعوا له الأقلام المختلفة، وأخذوا في تحسينة، حتى جاء الوزير (ابن مقلة) فابتدع من (الكوفي) نوعاً منه سماه (بالبديع) وهو (خط النسخ) ثم جاء (ابن هلال) فزاده حسنا حتى حل محل الكوفي. ولاقى عناية من الترك فرقوه كثيرا وابتكروا خطي (التعليق) و (الرقعة) كما ترى الآن. وكثير من اللغات يكتب به كالعربية والتركية والفارسية والأفغانية وغيرها.
[العلوم والمعارف فيه]
لا يعلم التاريخ فيما يعلم عصرا اشتهر بالعلوم، وازدهر بالآداب، كهذا العصر الزهي البهي. فلقد اعتنى خلفاؤه وعلماؤه بتدوين العلوم وترجمتها ونشرها. وكان أول ما دونوه علوم الدين والعربية، وما ترجموه علوم الرياضة. بدأ بذلك أبو جعفر المنصور الذي أنشأ المدارس للطب والشريعة، وترجم في زمنه كتاب (إقليدس) في الرياضة. وكذلك فعل الرشيد فألحق بكل مسجد مدرسة عامة. وترجم في عهده كثير من الكتب اليونانية في كثير من الفنون. وما تبوأ (المأمون) عرش الخلافة حتى استعر أوار هذه النهضة، برقعه شأن العلماء، وإجزاله صلة المترجمين. فتفجرت ينابيع العلوم، وعكف أهل الفضل على النظر فيها، فاخترعوا، واكتشفوا ما لا يجهله العالم، ولا ينكره التاريخ. من ذلك اكتشافهم قوانين لثقل الأجسام مائعها وجامدها، واختراعهم (الخطار) للساعة و (البوصلة البحرية) أي (بيت الإبرة) . وهم الذين بدأوا باستعمال الساعات الدقاقة الدالة على أقسام الزمن، ووضعوا علم الكيمياء الحقيقية، وألفوا الأرصاد والأزياج الفلكية، وحسبوا الكسوف والخسوف، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وغير ذلك مما لا يتسع له صدر هذا المختصر.
[اللغة في عصر الدول المتتابعة]
ليس في هذا العصر - عصر التقليد والانحطاط - ما يلفت النظر، فإن الدول العربية قد دالت، واللغة قد زالت، إلا قليلا مسطورا في كتب العلم والدين، أو مذكورا على ألسنة علمائها، وقليل ما هم. والشعر قد انطفأ نوره، وقل ظهوره، لقلة المستمعين إلى أهله، والعارفين بفضله، من ملوك العجم المتغلبة بالشرق. فكان كالعلم ذاويا في (فارس) وما وراء النهر زاهيا قليلا في بلاد العرب ومصر (بفضل الجامع الأزهر) والشام، تبعا لمصر. فلم تخل الأرض في كل قرن من عالم عربي كبير، أو شاعر خطير (كابن نباتة المصري وابن الوردي وأبي الفداء وابن خلدون وابن منظور صاحب لسان العرب وغيرهم) ممن كانوا نجوما في هذه السماء الداجية، وأعلاما في هذه المفازة النائية.
[اللغة في العصر الحديث]
إذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
تبتدئ مدة هذا العصر من استيلاء (محمد علي باشا) على مصر سنة (١٢٢٠) للهجرة أي مند عشر سنين ومئة (١١٠) من تاريخ عامنا هذا، وهو أواخر (ذي الحجة سنة ١٣٣٠ هـ-) .
بعد أن سقطت اللغة وآدابها في عصور الدول المتتابعة في تلك الهوة السحيقة، حتى أشفت على الدثور، وأشرفت على الهلاك، أخذت في هذا العصر تنهض من كبوتها، وتقال من عثرتها. فقد شيد لها في القطرين (المصري والشامي) دور رفيعة البنيان، سامية المنار. وأقبل على تعلمها وتعليمها الكثير من الناس، فأخذت روح حياتها تعاودها شيئا فشيئا.
وقد زاد في تعاليها والإقبال عليها ما ترجم إليها من الكتب العلمية في الفنون المختلفة، بعد أن ولى القوم وجوههم شطر الديار الغريبة لتلقي العلوم الحديثة. فأقبلوا على التأليف والترجمة، وافتتاح دور العلم، وبث روح النهضة في الأمة، حتى غصت - خصوصا في هذه الآونة الأخيرة - دور العلم بالطالبين والطالبات، وذلك مما يحمل المرء على الاعتقاد بأن الحياة قد أشرقت كواكبها بعد تلك الدياجي المتراكمة.
[النظم والنثر فيه]
قد أخذ النظم والنثر في هذا العصر بالترقي شيئا فشيئا. خصوصا في هذه الأيام، وما قبلها بنحو ثلاثين سنة. فقد وجد قوم أرجعوا الإنشاء إلى سالف عهده من المسحة العربية. والأساليب الصحيحة. والمعاني السامية. وكان الفضل في ذلك لشيخنا الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) مفتي الديار المصرية وأستاذه الأشهر (السيد جمال الدين الأفغاني) و (الشيخ إبراهيم اليازجي) ثم كثر بعدهم الكتاب متخذين أسلوبهما، ناسجين نسجهما. وقد أنجبوا من التلاميذ وتلاميذ التلاميذ ما يعز حصره.