فقال المنذر: "ما أشد جزعك من الموت! " فقال: "لا يرحل رحلك من ليس معك" فأرسلها مثلا. فقال له النعمان: "لا بد من الموت. ولو أن النعمان (يعنى أباه) عرض لي يوم بؤسي لذبحته. فاختر: إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت الوريد". فقال عبيد: "ثلاث خصال كسحابات عاد، واردها شر وراد، وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيه لمرتاد. وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر، حتى إذا ماتت مفاصلي، وذهلت ذواهلي، فشأنك وما تريد". فأمر المنذر بحاجته من الخمر. حتى إذا أخذت منه وطابت نفسه، دعا به المنذر. ليقتله فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
ألا أبلغ بني وأعمامهم: ... بأن المنايا هي الواردة
لها مدة، فنفوس العباد ... إليها
وإن كرهت
قاصدة
فلا تجزعوا لحمام دنا، ... فللموت ما تلد الوالدة
فأمر به المنذر ففصد. فلما مات غرى بدمه الغريين.
وكان موته سنة (٥٥٥) أو (٦٠٥) لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام. وقالوا: أنه عاش فوق مئتي سنة. وذلك قوله:
حتى يقال لمن تعرق دهره: ... يا ذا الزمانة، هل رأيت عبيدا
مئتى زمان كامل، أو بضعة ... عشرين عشت معمرا محمودا
ما تبتغي من بعد هذا عيشة ... إلا الخلود ولن تنال خلودا
وليفنين هذا وذاك كلاهما، ... إلا الإله ووجهه العبودا
[الكلام على شعره]
كان عبيد من فحول الشعراء الجاهليين. وقد جعلوه في طبقة طرفة بن العبد وأمثاله. وله شعر جميل، وحكمة عالية. ولشعره رونق وبهجة.
وقد فقد أكثر شعره. ولكن في القليل الباقي منه ما يشير إلى بلاغته وسمو كعبه في القريض.
ومن ذلك قوله (وكان ممن ينادم حجرا أبا امرئ القيس. ثم تغير حجر عليه وتوعده. ثم استصلحه فقال عبيد يخاطبه) :
طال الخيال علينا ليلة الوادي، ... من أم عمرو، ولم تلمم لميعاد
إني اهتديت لركب طال سيرهم ... في سبسب بين دكداك وأعقاد
إذهب، إليك فإني من بني أسد ... أهل القباب وأهل الجرد والنادي
أبلغ أبا كرب عني، وإخوته، ... قولا سيذهب غورا بعد أنجاد:
لا أعرفنك يوما أنت تندبني، ... وفي حياتي ما زودتني زادي
إن أمامك يوما أنت مدركه، ... لا حاضر مفلت منه ولا باد
فانظر إلى ظل ملك أنت تاركه: ... هل ترسين أواخيه بأوتاد؟
الخير يبقى، وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ومن شعره الجيد قوله:
إذا أنت لم تعبأ برأي، ولم تطع ... لنصح، ولم تصغ إلى قول مرشد
فلم تتقي ذم العشيرة كلها؟ ... وتدفع عنها باللسان وباليد
فلست ... وإن عللت نفسك بالمنى
بذي سؤدد باد، ولا كرب سيد
لعمرك ما خشي الجليس تفحشي ... عليه، ولا أنأى عن المتودد
ولا أبتغي ود امرئ قل خيره، ... ولا أنا عن وصل الصديق بأصيد
وإني لأطفي الحرب بعد شبوبها، ... وقد أوقدت للغي في كل موقد
وإني لذو رأي يعاش برأيه ... وما أنا من علم الأمور بمبتدي:
إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند
ولا تظهرن ود امرئ قبل خبره ... وبعد بلاء المرء فاذمم أو احمد
وإن أنت في مجد أصبت غنيمة ... فعد للذي صادفت من ذاك وازدد
تمنى مريء القيس موتي، وإن مت ... فتلكت سبيل لست فيها بأوحد
لعل الذي يرجو رداي وموتتي ... سفاها وجبنا، أن يكون هو الردي
وللمرء أيام تعد وقد رعت ... حبال المنايا للفتى كل مرصد
فمن لم يمت اليوم لا بد أنه ... سيعلقه حبل المنية في غد
ومما يستجاد من شعره قوله:
يا أيها السائل عن مجدنا، ... إنك عن مسعاتنا غافل
إن كنت لم تسمع بآبائنا ... فسل تنبأ، أيها السائل
سائل بنا حجرا غداة الوغى، ... يوم تولى جمعه الحافل
قومي بني دودان أهل الندى ... يوما إذا ألحقت الحامل
كم فيهم من سيد أيد، ... ذي نفحات، قائل، فاعل
من قوله قول، ومن فعله ... فعل، ومن نائله نائل
القائل القول الذي مثله ... يمرع منه البلد الماحل