للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وذلك أنه لما تسافهت (بكر بن وائل) وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم، فقالوا: "إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القوي الضعيف، ولا نستطيع تغيير ذلك. فنرى أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير. فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم. ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخر، فتفسد ذات بيننا. ولكنا نأتي (تبعا) فنملكه علينا". فأتوه فذكروا له أمرهم. فملك عليهم (حجرا آكل المرار الكندي) . فقدم، فنزل (بطن عاقل) . ثم غزا ببني (بكر بن وائل) ملوك (الحيرة) اللخميين وهم المناذرة ملوك العرب وواحدهم (المنذر) وكانوا قد ملكوا كثيرا من تلك البلاد، سيما بلاد (بكر بن وائل) حتى انتزع عامة ما في أيدي هؤلاء الملوك وردهم إلى أقاصي أعمالهم. قيل: وغزا بهم أيضا ملوك (الشام) وهم (الغسانيون) .

ولما ملك (حجر) سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة حتى مات في أواسط القرن الخامس الميلادي.

ولما مات خلفه ابنه (عمرو بن حجر) وهو (المقصور) . وسمي (المقصور) لأنه اقتصر على ملك أبيه، أي أقعد فيه كرها.

فلما مات خلفه ابنه "الحارث بن عمرو" فكان شديد الملك، بعيد الصيت. وفي أيامه فتح الأحباش "اليمن"، فضعف أمر دولته. فوجه عزيمته نحو "اللخميين" لينتزع الملك منهم. وكان يحسدهم لمنزلتهم عند الأكاسرة. وكان "كسرى قباذ" على "المنذر بن ماء السماء" اللخمي ملك العرب، فاغتنم "الحارث" تغير "كسرى" عليه، وأخذ يسعى بالتقرب منه.

[مذهب المزدكية]

وقد ذكروا في سبب تغير "كسرى قباذ" على "المنذر بن ماء السماء" أنه قد خرج في أيامه رجل يقال له "مزدك" فدعا الناس إلى الزندقة وإباحة الحرم وأن لا يمنع أحد أخاه ما يريده من ذلك. وكان "المنذر بن ماء السماء" يومئذ عاملا على "الحيرة" ونواحيها. فدعاه "قباذ" إلى الدخول معه في ذلك فأبى. فدعا "الحارث بن عمرو" فأجابه، فشدد له ملكه، واطرد المنذر عن مملكته، وغلب على ملكه. فعظم "الحارث" عند القبائل من "نزار" أتاه أشرافهم، فقالوا: "إنا نخاف أن نتفانى مما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض". ففرق ولده في قبائل العرب. وكان له خمسة أولاد. فملك ابنه "حجرا" أبا "امرئ القيس" صاحب المعلقة على بني "أسد" و"غطفان" وفرق أولاده الأربعة وهم "شرحبيل" قتيل "يوم الكلاب" و"معد يكرب" وهو "غلفي" "سمي بذلك لأنه كان يغلف رأسه" و"عبد الله" و"سلمة" على قبائل العرب يحكمون فيهم.

غير أن الحال لم تدم للحارث بن عمرو. بل قد قلب له الدهر ظهر المجن. فقد نكب ثم قتل.

وقد ذكروا في سبب نكبته أن أم "أنو شروان" كانت يوما بين يدي "كسرى قباذ" - وهي امرأته - فدخل عليه "مزدك" الزنديق السالف الذكر، فلما رأى أم "أنو شروان" قال لقباذ: "ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها". فقال له: "دونكها" فوثب إليه "أنو شروان"، فلم يزل يسأله ويضرع إليه أن يهب له أمه، حتى قبل رجله. فتركها له. فكانت تلك في نفس "أنو شروان".

[قتل المزدكيين]

فلما هلك "قباذ" وهو على تلك الحال من الزندقة، وملك بعده "أنو شروان"، وهو الملقب بالعادل، جلس في مجلس الملك. وبلغ المنذر هلاك "قباذ" فأقبل إلى "أنو شروان". وقد علم خلافه على أبيه فيما كانوا قد دخلوا فيه. فأذن "أنو شروان" للناس. وكان فيمن دخل عليه "مزدك" الزنديق صاحب أبيه. ثم دخل عليه "المنذر". فقال "أنو شروان": "إني كنت قد تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله قد جمعهما لي". فقال "مزدك": "وما هما أيها الملك؟ "؟ قال "تمنيت أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف "يعني المنذر"، وأن أقتل هؤلاء الزنادقة". فقال له "مزدك": "أو تستطيع أن تقتل الناس كلهم؟ ". قال: "إنك لههنا يا ابن الزانية؟ ". والله ما ذهب "نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا". وأمر به فقتل وصلب. وأمر بقتل الزنادقة، فقتل منهم ما بين "حاذر" إلى "النهروان" إلى "المدائن" في ضحوة واحدة مئة ألف زنديق، وصلبهم، وسمي يومئذ "أنو شروان".

<<  <   >  >>