للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم تحاكموا. فقال (عمرو بن هند) الملك: ما كنت لأحكم بينكم حتى تأتوني بسبعين رجلا من أشراف (بكر بن وائل) ، فأجعلهم في وثاق عندي. فإن كان الحق لبني (تغلب) دفعتهم إليهم. وإن لم يكن لهم حق خليت سبيلهم" ففعلوا ذلك وتواعدوا يوما بعينه يجتمعون فيه. وفي أثناء الهدنة جاء أناس من (بني تغلب) إلى (بني بكر) يستسقونهم. فطردتهم (بكر) للحقد الذي كان بينهم. فرجعوا. فمات منهم سبعون رجلا عطشا. ثم إن (بني تغلب) اجتمعوا لحرب (بني بكر) واستعدت لهم (بكر) . حتى إذا التقوا كرهوا الحرب وخافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت. فدعا بعضهم بعضا إلى الصلح. فلما كان اليوم الذي ضربوه موعد للاجتماع عند (عمرو بن هند) جاءت (تغلب) في ذلك اليوم يقودها (عمرو بن كلثوم) حتى جلس إلى الملك. وقال (الحارث بن حلزة لقومه "وهو رئيس بكر بن وائل") : "إني قد قلت قصيدة فمن قام بها ظفر بحجته وفلح على خصمه" فرواها أناسا منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضه إنشادهم. فحين علم (الحارث) أنه لا يقوم بها أحد مقامه قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور وينضح أثري بالماء إذا انصرفت. غير أني لا أرى أحدا يقوم بها مقامي، وإني محتمل ذلك لكم". (وكان بالحارث وضح. وكانوا يفعلون ذلك بمن به برص. وقيل: "بل كان (عمرو بن هند) يفعل ذلك لعظم سلطانة وكبريائه، ولا ينظر إلى به سوء) ".

فانطلق (الحارث) حتى أتى الملك. فقيل للملك: "إن به وضحا". فأمر أن دونهما سبع ستور. فجعلت. فلما نظر (عمرو بن كلثوم) إلى (الحارث) قال للملك (عمرو بن هند) : "أهذا يناطقني؟ وهو لا يطيق صدر راحلته". فأجابه الملك حتى أفحمه. وأنشد (الحارث) معلقته. وهو من وراء سبعة ستور. وكانت (هند) أم الملك تسمع. فلما سمعتها قالت: "تالله ما رأيت كاليوم قط رجلا يقول مثل هذا القول، يكلم من وراء سبعة ستور". فقال الملك: ارفعوا سترا. ودنا. فما زالت تقول ويرفع ستر وستر حتى صار مع الملك على مجلسه. ثم أطعمه في جفنته. وأمر أن لا ينضح أثره بالماء. وجز نواصي السبعين الذين كانوا في يديه من (بكر) ودفعها إلى (الحارث) . وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئا. فلم تزل تلك النواصي في (بني يشكر) بعد (الحارث) يفتخرون بها.

ثم إن (عمرو بن هند) حكم أنه لا يلزم (بني بكر) ما حدث على رهائن (بني تغلب) . فتفرقوا على هذه الحال. ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتى هم باستخدام (أم عمرو بن كلثوم) تعرضا لهم وإذلالا، فكان من ذلك أن قتله (عمرو بن كلثوم) . كما تقدم في خبره.

وقد ضرب (بالحارث) المثل بالفخر فقيل: "أفخر من الحارث بن حلزة".

والمشهور من الروايات أن (الحارث) قال معلقته ارتجالا وهو متوكئ على قوسه. وقد زعموا أنه اقتطم كفه من الغضب وهولا يشعر حين إنشادها. وقال (ابن السيد) في (أدب الكاتب) : "كان متوكئا على عنزة فارتزت في جسده وهو لا يشعر".

قال (يعقوب بن السكيت) : كان (أبو عمر الشيباني) يعجب لارتجال (الحارث) هذه القصيدة في موقف واحد. ويقول: لو قالها في حول لم يلم" قال: "وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضا (بني تغلب) تصريحا، وعرض ببعضها (لعمرو بن هند) .

غير أن الرواية التي رويناها هناك تدل على أنه لم يرتجلها، وإنما كان قد أعدها قبل إنشادها. والله أعلم بالصواب.

أما شعره فهو قليل جدا لأنه كان من المقلين. وإنما اشتهر بمعلقته هذه التي رفعت من قدره، وجعلته في صف شعراء الجاهلية المجيدين.

ومن شعره قوله يمدح رجلا يقال له (قيس بن شراحيل) وكان هذا في جملة من سعى بالصلح:

فهلا سعيت لصلح الصديق ... كصلح ابن مارية الأقصم

وقيس تدارك بكر العراق ... وتغلب من شرها الأعظم

وبيت شراحيل في وائل ... مكان الثريا من الأنجم

فأصلح ما أفسدوا بينهم ... كذلك فعل الفتى الأكرم

قال (يعقوب بن السكيت) أنشدني (النضر بن شميل) للحارث بن حلزة، وكان يستحسنها ويستجيدها. وذلك قوله:

من حاكم بيني وبين ... الدهر مال علي عمدا

أودى بسادتنا، وقد ... تركوا لنا حلقا وجردا

خيلي وفارسها ... ورب

أبيك

كان أعز فقدا

فلو أن ما يأوي إلى ... أصاب من ثهلان فندا

<<  <   >  >>