وَالثَّانيَِة مَدَنِيَّة نزلت بعد أَن أَمر بِالْهِجْرَةِ وَالْجهَاد وَلِهَذَا تَضَمَّنت مناظرة أهل الْكتاب ومباهلتهم كَمَا نزلت فِي بَرَاءَة مجاهدتهم فَأخْبر فِي السُّور المكية أَنَّهَا لما انْفَرَدت لِلْعِبَادَةِ أرسل إِلَيْهَا روحه فتمثل لَهَا بشرا سويا فَقَالَت {إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا}
قَالَ أَبُو وَائِل علمت أَن المتقي ذُو نَهْيه أَي تقواه ينهاه عَن الْفَاحِشَة وَأَنَّهَا خَافت مِنْهُ أَن يكون قَصده الْفَاحِشَة فَقَالَت {أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا} أَي تتقي الله وَمَا يَقُول بعض الْجُهَّال من أَنه كَانَ فيهم رجل فَاجر اسْمه تَقِيّ فَهُوَ من نوع الهذيان وَهُوَ من الْكَذِب الظَّاهِر الَّذِي لَا يَقُوله إِلَّا جَاهِل ثمَّ قَالَ {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا}
وَفِي الْقِرَاءَة الْأُخْرَى {لأهب لَك غُلَاما زكيا} فَأخْبر هَذَا الرّوح الَّذِي تمثل لَهَا بشرا سويا أَنه رَسُول رَبهَا فَدلَّ الْكَلَام على أَن هَذَا الرّوح عين قَائِمَة بِنَفسِهَا لَيست صفة لغَيْرهَا وَأَنه رَسُول الله لَيْسَ صفة من صِفَات الله وَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء إِنَّه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن الله سَمَّاهُ الرّوح الْأمين وَسَماهُ روح الْقُدس وَسَماهُ جِبْرِيل وَهَكَذَا عِنْد أهل الْكتاب أَنه تجسد من مَرْيَم وَمن روح الْقُدس لَكِن ضلالهم حَيْثُ يظنون أَن روح الْقُدس حَيَاة الله وَأَنه إِلَه يخلق ويرزق ويعبد وَلَيْسَ فِي شَيْء من الْكتب الإلهية وَلَا فِي كَلَام الْأَنْبِيَاء أَن الله سمى صفته الْقَائِمَة بِهِ روح الْقُدس وَلَا سمى كَلَامه وَلَا شَيْئا من صِفَاته ابْنا وَهَذَا أحد مَا تبين بِهِ ضلال النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ حرفوا كَلَام الْأَنْبِيَاء وتأولوه على غير مَا أَرَادَت بِهِ الْأَنْبِيَاء فَإِن أصل تثليثهم مَبْنِيّ على مَا فِي أحد الأناجيل من أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُم عَمدُوا النَّاس باسم الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس فَيُقَال لَهُم هَذَا إِذا كَانَ قد قَالَه الْمَسِيح وَلَيْسَ فِي لُغَة الْمَسِيح وَلَا لُغَة أحد الْأَنْبِيَاء أَنهم يسمون صفة الله الْقَائِمَة بِهِ لَا كَلمته وَلَا حَيَاته لَا ابْنا وَلَا روح قدس وَلَا يسمون كَلمته ابْنا وَلَا يسمونه نَفسه ابْنا وَلَا روح قدس وَلَكِن يُوجد فِيمَا ينقلونه عَنْهُم أَنهم يسمون الْمُصْطَفى المكرم ابْنا وَهَذَا مَوْجُود فِي حق الْمَسِيح وَغَيره كَمَا يذكرُونَ أَنه قَالَ تَعَالَى لإسرائيل أَنْت ابْني بكري أَي بني إِسْرَائِيل وروح الْقُدس يُرَاد بِهِ الرّوح الَّتِي تنزل على الْأَنْبِيَاء كَمَا نزلت على دَاوُد وَغَيره فَإِن فِي كتبهمْ أَن روح الْقُدس كَانَت فِي دَاوُد وَغَيره وَأَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فَسَماهُ أَبَا للْجَمِيع لم يكن الْمَسِيح مَخْصُوصًا عِنْدهم باسم الابْن وَلَا يُوجد عِنْدهم لفظ الابْن إِلَّا اسْما للمصطفى المكرم لَا اسْما لشَيْء من صِفَات الله الْقَدِيمَة حَتَّى يكون الابْن صفة الله تولدت مِنْهُ وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ فِي هَذَا مَا يبين أَنه لَيْسَ المُرَاد بالابن كلمة الله الْقَدِيمَة الأزلية الَّتِي يَقُولُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute