للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متواترا قُلْنَا إِنَّمَا لَا تنكتم المواطأة الَّتِي تكون بَين جمع عَظِيم فَأَما مَا يكون بَين الْملك وخواصه تنكتم فَإِنَّهُم رصد لحفظ الْأَسْرَار وَإِنَّمَا يخصهم الْملك بِهَذَا الشَّرْط لِأَن تَدْبِير الْملك لَا يتم مستويا إِلَّا بِحِفْظ الْأَسْرَار وَهَذَا مَعْرُوف فِي عَادَة أهل كل زمَان أَن المواطأة الَّتِي تكون بَين الْملك وخواصه لَا تظهر للعوام فَعرفنَا أَنه لَا يُوجد النَّقْل الْمُوجب لعلم الْيَقِين فِي شَيْء من هَذِه الْأَخْبَار

فَأَما أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم فقد كَانُوا من قبائل مُخْتَلفَة وَكَانُوا عددا لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الاختراع عَادَة لكثرتهم فَعرفنَا أَن مَا نقلوه عَنهُ بِمَنْزِلَة المسموع مِنْهُ فِي كَونه مُوجبا علم الْيَقِين لِأَنَّهُ لما انْتَفَى تُهْمَة احْتِمَال المواطأة تعين جِهَة السماع

فَإِن قيل مَعَ هَذَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب غير مُنْقَطع لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرط التَّوَاتُر اجْتِمَاع أهل الدُّنْيَا وَإِذا اجْتمع أهل بَلْدَة أَو عامتهم على شَيْء يثبت بِهِ التَّوَاتُر كَيفَ وَقد نقل الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه وهم كَانُوا عسكره لما تحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على صحبته مَعَ تبَاين أمكنتهم فَذَلِك يُوهم الِاتِّفَاق مِنْهُم على نقل مَا لَا أصل لَهُ قُلْنَا مثل هَذَا الِاتِّفَاق من الْجمع الْعَظِيم خلاف الْعَادة وَهُوَ نَادِر غَايَة وَعَادَة وَالْبناء على مَا هُوَ مُعْتَاد الْبشر أَلا ترى أَن المعجزات توجب الْعلم بِالنُّبُوَّةِ قطعا لكَونهَا خَارِجَة عَن حد مُعْتَاد الْبشر وَلَو أَن وَاحِدًا قَالَ فِي زَمَاننَا صعدت السَّمَاء وَكلمت الْمَلَائِكَة نقطع القَوْل بِأَنَّهُ كَاذِب لكَون مَا يخبر بِهِ خَارِجا عَمَّا هُوَ الْمُعْتَاد والتوهم بعد ذَلِك غير مُعْتَبر وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شهد شَاهِدَانِ على رجل أَنه طلق امْرَأَته يَوْم النَّحْر بِمَكَّة وآخران أَنه أعتق عَبده فِي ذَلِك الْيَوْم بِعَيْنِه بكوفة لَا تقبل الشَّهَادَة لِأَن كَون الْإِنْسَان فِي يَوْم وَاحِد بِمَكَّة وكوفة مُسْتَحِيل عَادَة فَيسْقط مَا وَرَاءه من التَّوَهُّم يُوضحهُ أَنه لَو كَانَ هُنَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب لظهر ذَلِك فِي عصرهم أَو بعد ذَلِك إِذا تطاول الزَّمَان فقد كَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا أَو أَكثر والمواطأة فِيمَا بَين مثل هَذَا الْجمع الْعَظِيم لَا ينكتم عَادَة بل يظْهر كَيفَ وَقد اخْتَلَط بهم المُنَافِقُونَ وجواسيس الْكَفَرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} وَقد كَانَ فِي الْمُسلمين أَيْضا من يلقِي إِلَى الْكفَّار

<<  <  ج: ص:  >  >>