فالاستثناء الأول كَانَ من المهلكين ثمَّ فهم مِنْهُ الإنجاء وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من المنجين فَإِنَّمَا فهم مِنْهُ أَنهم من المهلكين
وعَلى هَذَا قَالُوا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا دِرْهَمَيْنِ يلْزمه تِسْعَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء الأول من الْإِثْبَات فَكَانَ نفيا وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من النَّفْي فَكَانَ إِثْبَاتًا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} أَي إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم لم يشْربُوا فقد نَص على هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَإِذا ثَبت أَن المُرَاد بالْكلَام هَذَا كَانَ فِي مُوجبه كالمنصوص عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ كلمة الشَّهَادَة فَإِنَّهَا كلمة التَّوْحِيد لاشتمالها على النَّفْي وَالْإِثْبَات وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا جعل كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا الله فَإِنَّهُ هُوَ الْإِلَه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن صِيغَة الْإِيجَاب إِذا صَحَّ من الْمُتَكَلّم فَهُوَ مُفِيد حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وبالاستثناء لَا يَنْتَفِي التَّكَلُّم بِكَلَام صَحِيح فِي جَمِيع مَا تنَاوله أصل الْكَلَام وَلَو لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُوجبا هُوَ معَارض مَانع لما امْتنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج من أَن يكون متكلما بِهِ فِيهِ لِاسْتِحَالَة أَن يكون متكلما بِهِ غير مُتَكَلم فِي كَلَام وَاحِد وَلَكِن يجوز أَن يكون متكلما بِهِ وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لمَانع منع مِنْهُ كَمَا فِي البيع بِشَرْط الْخِيَار فَعرفنَا أَن الطَّرِيق الصَّحِيح فِي الِاسْتِثْنَاء هَذَا وَعَلِيهِ خرج مذْهبه فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف إِن المُرَاد إِلَّا الَّذين تَابُوا فَأُولَئِك هم الصالحون وَتقبل شَهَادَتهم إِلَّا أَنه لَا يتَنَاوَل هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْجلد على وَجه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال بِإِيجَاب حكم فِيهِ سوى الحكم الأول وَهُوَ حَال مَا بعد التَّوْبَة فَيخْتَص بِمَا يحْتَمل التَّوْقِيت دون مَا لَا يحْتَمل التَّوْقِيت وَإِقَامَة الْجلد لَا يحْتَمل ذَلِك فَأَما رد الشَّهَادَة والتفسيق يحْتَمل ذَلِك
وَقَالَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء إِن المُرَاد لَكِن إِن جعلتموه سَوَاء بِسَوَاء فبيعوا أَحدهمَا بِالْآخرِ حَتَّى أثبت بِالْحَدِيثِ حكمين حكم الْحُرْمَة لمُطلق الطَّعَام (بِالطَّعَامِ) فأثبته فِي الْقَلِيل وَالْكثير وَحكم الْحل بِوُجُود الْمُسَاوَاة كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكثير الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة
وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون}
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute