للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السجود لربهم تبارك وتعالى، فيحال بينهم وبينه فلا يستطيعون السجود مع المسلمين، عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين، الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي (١) البقر، ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ. فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: ٣٨ - ٤٧]، فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين، أو مجموعها: فإن كان كل واحد منها مستقلا بذلك فالدلالة ظاهرة، وإن كان مجموع الأمور الأربعة فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم، وإلا فكل واحد منها مقتض للعقوبة إذ لا يجوز أن يضم ما لا تأثير له إلى ما هو مستقل بها.

ومن المعلوم أن ترك الصلاة وما ذكر معه ليس شرطًا على التكذيب بيوم الدين، بل هو وحده كاف في العقوبة، فدل على أن كل وصف ذكر معه كذلك، إذ لا يمكن لقائل أن يقول: لا يعذب إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة! فإذا كان كل واحد منها موجبا للإجرام، وقد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين كان تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: ٤٧، ٤٨]، وقال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: ٢٩]، فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: ٥٦]، فوجه الدلالة أنه سبحانه علق حصول الرحمة لهم بفعل هذه الأمور، فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة، والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها.


(١) في المطبوع من هذه الرسالة النافعة، وأيضا في "الصلاة" لابن القيم (كميامن البقر)، والصواب ما أثبته، ويشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه إسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية" (٤٥٣٩)، و "إتحاف الخيرة" (٧٦٨٤)، وعبد الله بن أحمد في "السنة" (١٢٠٣)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (٢٧٨) و (٢٨١)، وابن خزيمة في "التوحيد" ٢/ ٥٨٣ - ٥٨٤، والطبراني ٩/ (٩٧٦٣)، والآجري في "الشريعة" (٦١٠)، والدارقطني في "الرؤية" (١٦١) و (١٦٢)، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٧٦ و ٤/ ٥٨٩ - ٥٩٢، وصححه، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (٨٤٢)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (٢٩)، والبيهقي في البعث والنشور (٤٣٤) من حديث ابن مسعود الطويل في حشر الخلائق يوم القيامة، وفيه "ويبقى أهل الِإسلام جثوما، فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد، قال: فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة، إن رأيناه عرفناه، قال: وما هي؟ قالوا: الساق، فيكشف عن ساق، قال: فيحني كل من كان لظهر طبق ساجدا ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون … الحديث".
ومعنى (صياصي البقر) أي قرونها، واحدتها صيصية. قاله ابن الأثير في "النهاية" ٣/ ٦٧.

<<  <   >  >>