للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:

وقد أقدم بعضهم فذكر "صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق الظهر والعصر بعد غروب الشمس" (١)، ثم أشار إلى أنه عليه السلام تركها متعمدا ذاكرا لها.

قال علي: وهذا كفر مجرد ممن أجاز ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأنهم مقرون معنا بلا خلاف من أحدهم، ولا من أحد من الأمة في أن من تعمد ترك صلاة فرض ذاكرا لها حتى يخرج وقتها، فإنه فاسق مجرح الشهادة، مستحق، للضرب والنكال، ومن أوجب شيئا من النكال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو وصفه وقطع عليه بالفسق أو بجرحه في شهادته، فهو كافر مشرك مرتد كاليهود والنصارى، حلال الدم والمال، بلا خلاف من أحد من المسلمين.

وذكر بعضهم قول الله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: ١٤] وقوله عليه السلام: "خمس صلوات كتبهن الله تعالى" (٢)، وقال: قد صحّ وجوب الصلاة، فلا يجوز سقوطها إلا ببرهان نص أو إجماع.

قال علي: وهذا قول صحيح، وقد صح البرهان بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوجب كل صلاة في وقت محدود أوله وآخره (٣)، ولم يوجبها عليه السلام لا قبل ذلك الوقت، ولا بعده، فمن أخذ بعموم هذه الآية وهذا الخبر لزمه إقامة الصلاة قبل الوقت وبعده، وهذا خلاف لتوقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة بوقتها.

وموه بعضهم بحديث رويناه من طريق أنس: "إنهم اشتدت الحرب غداة فتح تستر فلم يصلوا إلا بعد طلوع الشمس".

وهذا خبر لا يصح، لأنه إنما رواه مكحول: أن أنس بن مالك قال: ومكحول لم يدرك أنسا (٤) ثم لو صح فإنه ليس فيه أنهم تركوها عارفين بخروج وقتها، بل كانوا ناسين لها بلا شك، لا يجوز أن يظن بفاضل من عرض المسلمين غير هذا، فكيف بصاحب من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كانوا ذاكرين لها لصلوها صلاة الخوف كما أمروا، أو رجالا وركبانا كما ألزمهم الله تعالى، لا يجوز غير هذا، فَلاحَ يقينًا كذب من ظنّ غير هذا، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام الحافظ ابن حزم رحمه الله.


(١) حديث صحيح - انظر تخريجه في كتابي "أحاديث الأحكام رواية ودراية" (٨٧).
(٢) حديث صحيح - تقدّم تخريجه انظر الحاشية رقم (٥٠).
(٣) جاء من حديث بريدة، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأبي مسعود الأنصاري، وعمرو بن حزم الأنصاري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن أبي أوفى، وانظر تخريجها في "أحاديث الأحكام رواية ودراية" (تعيين أوقات الصلوات الخمس أوائلها وأواخرها) رقم (٧٨).
(٤) على فرض التسليم بما قاله ابن حزم، فله طريق أخرى عن أنس:
أخرجه ابن أبي شيبة ١٣/ ٢٨ من طريق همام بن يحيى، وخليفة بن خياط في "تاريخه" (ص ١٤٦) من طريق سعيد، كلاهما عن قتادة، عن أنس، أنه قال: "شهدت فتح تستر مع الأشعري، قال: فلم أصلِّ صلاة الصبح حتى انتصف النهار، وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا جميعا".
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وعلّقه البخاري في "صحيحه" ٢/ ١٨ صلاة الخوف (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو).

<<  <