بضرورة العقل أنه لابد من موجود قديم، فمن المعلوم بالمشاهدة والعقل وجود موجودات، ومن المعلوم أيضا أن منها ما هو حادث بعد أن لم يكن، كما نعلم نحن أننا حادثون بعد عدمنا وأن السحاب حادث، والمطر والنبات حادث، والدواب حادثة، وأمثال ذلك من الآيات التي نبه الله تعالى عليها
بقوله:{أن فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهذه الحوادث المشهودة يمتنع أن تكون واجبة الوجود بذاتها: فإن ما وجب وجوده بنفسه امتنع عدمه ووجب قدمه، وهذه كانت معدومة فوجدت، فدل وجودها بعد عدمها على أنه يمكن وجودها ويمكن عدمها، فعلم بالضرورة اشتمال الوجود على موجود محدث ممكن فنقول حينئذ: الموجود المحدث الممكن لابد له من موجود قديم بنفسه فإنه يمتنع وجود المحدث بنفسه، كما يمتنع أن يخلق الإنسان نفسه، وهذا من أظهر المعارف الضرورية: فإن الإنسان بعد حدوثه ووجوده لا يقدر أن يزيل في ذاته عضواً ولا قدراً ولا يجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر: وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك وهذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة حتى للصبيان. فإن الصبي لو ضربه ضارب وهو غافل لا يبصره لقال: من ضربني؟ فلو قيل له لم يضربك أحد لم يقبل عقله أن تكون الضربة حدثت من غير محدث! بل يعلم أنه لابد للحادث من محدث. فإذا قيل فلان ضربك بكى حتى يضرب ضاربه، فكان في فطرته الإقرار بالصانع وبالشرع الذي مبناه على العدل ولهذا قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أنه لما قدم في أساري بدر قال: وجدت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال: فلما سمعت هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أحست بفؤادي قد انصدع، وذلك أن هذا تقسيم حاصر