فمن نظر إلى القدر فقط وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية لم يميز بين العلم والجهل والصدق والكذب والبر والفجور، والعدل والظلم والطاعة والمعصية والهدى والضلال والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه وأهل الجنة والنار، وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتاب الله ودينه وشرائعه فهم مخالفون أيضا لضرورة الحس والذوق وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب وما لا يأكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية، ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائما فقد افترى وخالف ضرورة الحس ولكن قد يعرض للإنسان في بعض الأوقات عارض كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، فإما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة وما يسره أخرى، فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام- كالفناء والسكر ونحو ذلك- إنما تنشأ عن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه