للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا حنَّ لم يُسمعْ رجيعُ حنينهِ ... فلا القيدُ مُنحلٌّ ولا هو قاضبُهْ

وقال عروة بن أذينة:

وتفرَّقوا بعدَ الجميعِ لِنيَّةٍ ... لا بدَّ أن يتفرَّقَ الجيرانُ

لا تصبرُ الإبلُ الجِلادُ تفرَّقتْ ... حتَّى تحنَّ ويصبرُ الإنسانُ

ومما ذكروا في التطيّر منها والكراهية لها قول عوف الراهب:

غلطَ الذينَ رأيتهمْ بجهالةٍ ... يلحوْنَ كلُّهمُ غُراباً ينعقُ

ما الذَّنبُ إلاَّ للأباعرِ أنَّها ... مما يُشتُّ جميعهمْ ويفرِّقُ

إنَّ الغرابَ بيُمنهِ تُدني النَّوى ... وتشتُّ بالشَّملِ الشَّتيتِ الأينقُ

وقال أبو الشيص في مثل ذلك:

ما فرَّقَ الأحبابَ بعْ ... دَ اللهِ إلاَّ الإبلُ

والنَّاسُ يلحوْنَ غُرا ... بَ البينِ لمَّا جهلوا

وما علَى ظهرِ غُرا ... بِ البينِ تُمطى الرُّحلُ

ولا إذا صاحَ في ال ... دِّيارِ احتملوا

وما غُرابُ البينِ إلاَّ ... ناقةٌ أوْ جملُ

وقال آخر:

ما المنايا إلاَّ المطايا وما فرَّ ... قَ شيءٌ تفريقَها الأحبابا

ظلَّ حاديهمُ يسوقُ بقلبي ... ويرى أنَّهُ يسوقُ الرِّكابا

ولبعض أهل هذا العصر:

ولمَّا أتوْنا بالمطايا وقرَّبوا ... محاملَ لمْ تُشددْ عليها قيودُها

تيمَّمْتكُمْ عمداً لأحظى بلحظةٍ ... لعلِّي إن فارقتكُمْ لا أُعيدُها

فلمْ أنسَ إذْ قيَّدتُ رحلَ مطيَّتي ... وقلتُ لحادي الذَّودِ لم لا تقودُها

كأنَّكَ لمْ تعلمْ بأن ربَّ لحظةٍ ... تفوتُكَ لا تدري متى تستفيدها

فلو لمْ تكنْ تهوى الفراقَ نحرْتَها ... ولم تلتمسْ عمداً لها من يقودُها

فيا عجبا منِّي ومن صبرِ مُهجتي ... عليَّ وقدْ أعيَتْ علَى من يكيدُها

أضنُّ بها عمَّنْ يرى المُلكَ دونها ... وأبذلُها طوعاً لمن لا يريدُها

[الباب السادس والثلاثون]

[من فاته الوصال نعشه الخيال]

قد تقدَّم قولنا في عيب من خلَّف خليله أوْ تخلَّف عنه في وقته أوْ عن اللُّحوق به على حسب طاقته ثمَّ وكَّدنا عيب من لم يرض حتَّى أقرَّ بأنَّ المشوِّق له إلى إلفه عارضٌ غير متمكِّنٍ له من نفسه وأصحاب هذا الباب الَّذي نحن في أوَّله يلحقهم ذلك العيب كلُّه ويزدادون معه لوماً على مسامحتهم أنفسهم في التَّلذُّذ برقادهم وأخلاَّؤهم ظاعنون عن بلادهم ومن الصُّوفيَّة من لا يقنع لهم بما ألحقناه من العيب بهم حتَّى يقولوا إنَّ النَّوم لو كان مانعاً لهم لكان تخصيصهم إيَّاه بأنَّه يريهم أحبَّتهم نقصاً بيِّناً في مودَّتهم فإنَّ الحال إذا تمكَّنت لم تفترق الرُّوحان وإن افترق الشَّخصان فالمحبُّ المشاهد لصاحبه على كلِّ حالٍ مستغنٍ عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال ومن طرائف ما قيل في الخيال وأدلّه على ضعف قائله في الحال.

قول ذي الرمة:

فيا ميُّ هلْ يُجزى بُكائي بمثلهِ ... مراراً وأنفاسي عليكِ الزَّوافرُ

وإنْ لامني يا ميُّ من دونَ صُحبتي ... لكِ الدَّهرَ من أُحدوثةِ النَّفسِ ذاكرُ

وأنْ لا ينالَ الرَّكبُ يا ميُّ وقفةً ... منَ اللَّيلِ إلاَّ اعتادني لكِ زائرُ

فهذا أحسن الله جزاءه لم يرض بالعيب الَّذي ذكرناه حتَّى طالب محبوبه بأن يجازيه على تخييله إيَّاه في منامه ثمَّ لم يقنعه أن يجازى بمثل بكائه مراراً فأما اعتذاره بأنه لا يرقد إلاَّ اعتاده منها زائرٌ فقد يتهيَّأ أن يخفَّف جرمه فيه فضربٌ من المعاذر فيقال إنَّه إنَّما عنى أنَّه لا ينفكُّ خاطره من ذكرها فإذا رقد رأى خيالها بقلبه لشدَّة غلبته في حال اليقظة على فكره وأما ما ذكره سوى ذلك من المحالات فإنَّه ينبو عن مراتب الاعتذارات وقد قال قيس بن الملوَّح ما إن لم يكن موفياً على حدِّ الكمال فإنَّه إلى الجليلة من الأحوال وهو:

وإنِّي لأستسقي وما بيَ عطشةٌ ... لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خياليا

وأخرجُ من بينِ الجلوسِ لعلَّني ... أُحدِّثُ نفسي عنك في السرِّ خاليا

<<  <   >  >>