قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:
إذا ما سألتُكَ وعْداً تُريحُ ... بهِ مُهجتي فأنا المُستريحُ
فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ ... فإنِّي علَى حسراتي شحيحُ
أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عنكَ ... فُؤادٌ قريحٌ وقلبٌ جريحُ
ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:
ويُعجبني فَقري إليكَ ولمْ يكنْ ... لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الفَقرُ
وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نعمةً ... ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ
وأحسن الَّذي يقول:
وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِنَ الهوَى ... علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ
فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنبي إليكُمُ ... فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ من ذنبِ
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
أحببتُ قلبي لمَّا أحبَّكمُ ... وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعا
ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبهُ ... تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا
وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:
خليليَّ فيما عِشتما هلْ رأيتُما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلي
فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُها ... ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي
وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:
عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى ... أحاديثاً لقومٍ بعدَ قومِ
وعروةُ ماتَ موتاً مُستريحاً ... وها أنذا أموَّتُ كُلَّ يومِ
وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:
أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحوها ... أمامي وإنْ كانَ المصلَّى ورائيا
وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها ... مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا
أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها ... أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمانيا
وما جئْتها أبغي شفائي بنظرةٍ ... فأبصرتُها إلاَّ انصرفتُ بدائيا
وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:
ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بهِ ... هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبهِ
يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ ... أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ
[الباب الثالث]
[من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه]
قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالاً بعد حالٍ فإذا كان النظر الصَّاحي إلى الصُّورة الَّتي يستحسنها طرفه مؤكّداً للمنظور إليه المحبَّة في قلبه كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كرباً على كربه ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه في الثاني من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.
وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي:
بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائماً ... فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ
وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك:
خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّني ... أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها ... فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها
وقال أيضاً:
وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً ... فأبرقُ مغشياً عليَّ مكانيا
وأسمعُ منها لفظةً فكأنَّما ... يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا