يبكي عليها بها مخافةَ أنْ ... تقْرِنهُ والظَّلامَ في قرَنِ
وقال البحتري:
هلْ أنتَ من حبِّ ليلَى آخذٌ بيدي ... أوْ ناصرٌ لي علَى التَّعذيبِ والسَّهدِ
وهلْ دموعٌ أفاضَ الحزنُ ريِّقَها ... تُدني منَ البعدِ أوْ تشفي منَ الكمدِ
قد باتَ مُستعبراً من كانَ مُصطبراً ... وعادَ ذا جزعٍ من كانَ ذا جلدِ
إنْ أسخطَ الهجرُ لا أرجِعْ إلى بدلٍ ... منهُ وإنْ أطلُبِ السُّلوانَ لا أجدِ
وقال الأعشى:
وفاضتْ دموعي فظلَّ الشُّؤونُ ... إمَّا وكيفاً وإمَّا انحدارا
كما أسلمَ السِّلكُ منْ نظمهِ ... لآلئَ مُنحدراتٍ صغارا
وقال آخر:
ولوْ أنَّ دمعي لم يفضْ لتقطَّعتْ ... نباتُ فؤادي حينَ تُذكرُ من وجدي
وقدْ صرمتْني إذْ تيقَّنَ قلبُها ... بأنْ لستُ عنها بالصَّبورِ ولا الجلدِ
فيا ليتني واللهِ متُّ ولمْ أكنْ ... فتحتُ لها بالدَّمعِ باباً منَ الصَّدِّ
وقال آخر:
أعيْنَيَّ ما لي كلَّما بتُّ ليلةً ... بأرضٍ فضاءٍ كانِ دمعي قراكُما
أعينيَّ لامَ اللهُ من لامَ فيكُما ... مُحبّاً وآذى من يريدُ أذاكُما
أعينيَّ صبراً أعقباني حلاوةً ... فقدْ خفتُ من طولِ البكاءِ عماكُما
ألا قد أرى واللهِ أنْ قد قذيتُما ... بمن لا يبالي أن يطولَ قذاكُما
أجدَّكُما لا تذكرا زمناً مضى ... بصنعاءَ لا بلْ جنِّباني نداكُما
وأنشدتني مريم الأسدية:
أعينيَّ من كحلِ الطَّبيبِ تداويا ... فلا كحلَ بعدَ اليومِ يشفي قذاكُما
أعينيَّ كفَّا الدَّمعَ لا تُشمتا بنا ... عدوّاً ولا يُحزنْ صديقاً بكاكُما
[الباب الثاني والأربعون]
[نحول الجسد من دلائل الكمد]
أمَّا الدَّلالة على صحَّة هذا القول من جهة الطِّبِّ فهي إنَّ الحرارة المتولِّدة من الحزن تنحاز إلى القلب من سائر أعضاء البدن ثمَّ تتصاعد إلى الدِّماغ فتتولَّد بخاراتٍ رديَّةً فإن طاقتها الطَّبيعة بالقوَّة الغريزيَّة أذابت تلك البخارات الرَّديَّة فأجرتها دموعاً وربَّما أضرَّ كثرة جريانها بالمجاري فأدماها فجرى الدَّم مجرى الدَّمع وهكذا تذيب تلك القوى البخارات المتولِّدة في الدِّماغ في كمون الحرارة لما يعرض للرَّأس من حرٍّ وبردٍ فتجريه من الأنف زكاماً فتذهب غائلته ولو لم تذبه وتجره من الأنف صار كيموساً غليظاً ومادَّة منصبةً إلى بعض الأعضاء الرَّئيسية فحينئذٍ تتلف أوْ تولِّد علَّةً غليظةً فكذلك الدُّموع إن لم تطق تذويبها القوى الطَّبيعيَّة واشتغلت عنها بمدافعة ما هو أخوف على النَّفس منها صارت تلك البخارات كيموساً غليظاً فولَّد أمراً عظيماً وإمَّا أن يستقرَّ في الدماغ فيفسد ما جمع فيبطل الذّكر ويفسد الفكر ويهيج التَّخييلات المستحيلات وذلك هو الجنون بعينه وربَّما فسدت منه كرَّةً أو كرَّتين فيفسد بفسادها ما كان مستقيماً بصلاحها وشرح ذلك يطول وليس من جنس ما ابتدأناه فيجب علينا أن نشرح منه ما أجملناه وربَّما انحدر ذلك الكيموس عن الدماغ إلى القلب فهتك بعض الحجب أوْ جميعها وكان منه حينئذٍ التَّلف لا محالة والله أعلم وربَّما انحدر إلى الكبد فمنع شهوة الطَّعام والشَّراب فحينئذٍ يكون نحول الجسم وضعف القوَّة ولقد أصاب كلَّ الإصابة على الإصابة حيث يقول:
عجائبُ الحبِّ لا تفنى وأوَّلها ... ممَّنْ تحبُّ بتكذيبٍ وإنكارِ
ماءُ المدامعِ نارُ الشَّوقِ تُحدرهُ ... فهلْ سمعتَ بماءٍ فاضَ من نارِ
لأنَّ هذا هو الَّذي قدَّمنا ذكره من أنَّ الحرارات هي المولِّدة لتلك البخارات الَّتي يحدث الدَّمع منها بإذابة الحرارة الغريزية لها وقد ذكرت الشعراء جملاً من أن فيض الدمع أروح من كمونه ولم يدلُّوا على سبب ذلك ولا أحسبهم وقفوا عليه ومن أقربهم وصفاً له الَّذي يقول:
كتمتُ الهوَى حتَّى بدا كتَمانهُ ... وفاضَ فنمَّتْهُ عليَّ المدامعُ
ولو لمْ يفضْ دمعي لعادَ إلى الحشا ... فقطَّعَ ما تُحنى عليهِ الأضالعُ
وقال بعض الأعراب:
يقولونَ لا تُنزفْ دموعكَ بالبُكا ... فقلتُ وهلْ للعاشقينَ دموعُ
لئنْ كانَ أبقى لي التَّشوُّقُ قطرةً ... لهنَّ إذنْ من عاشقٍ لمُضيعُ